من اللافت للنظر أن الوجود الأجنبي في المنطقة كان في السابق على حساب الأجنبي، اما الآن فقد اصبح على حساب صاحب المحل!! ..
فالعرب يدفعون فاتورة الوجود الأجنبي مرتين، مرة لشراء وتكديس اسلحة لا تستخدم، ومرة لدفع نفقات الوجود العسكري الأجنبي.
لقد اهترأ النظام العربي, اصبح به من الثقوب اضعاف ما به من النسيج ، وحتى محاولات التنسيق الجهوية او الثنائية تتم على ارضية من الريبة وعدم الثقة، حتى صار اجتماع طرفين عربيين يعني ميلاد خلافات جديدة و بحيث أصبح من الأصح ألا يلتقيا ، ومن الواضح ان الغني يرتاب في الفقير، والضعيف يكره القوي، ومع ذلك فما زال البعض ينشدون: وحدة مايغلبها غلاب و الحلم العربي ...
لقد طالب البعض بتأجير مبنى الجامعة العربية شققا مفروشة كي تكون له ولو مرة فائدة ذات قيمة !! او على الأقل لدفع اجور جهازها البيروقراطي, واصبح ذلك المبنى يقف في قلب القاهرة كشاهد على مقبرة النظام العربي ، او كدار للمناسبات في احسن الفروض, وقد قيل - وهو حق- انه لو جمعت وثائق تلك الجامعة لأمكن ان يبنى بها هرما يطاول هرم خوفو، ولكنه هرم من ورق.
أصبحت عناصر الوحدة هي نفسها عناصر الفرقة ، فاللغة الواحدة قد يسرت تبادل الشتائم واللعنات والتأثير السلبي على الرأى العام المحلي ، بحيث غلبت النعرة المحلية على الشعور القومي ، بينما اصبحت العروبة مثل تذكارات العائلة القديمة ، يتم الإعتناء بها وتلميعها ووضعها في فاترينة انيقة ولا تخرج إلا في المناسبات ، أما التاريخ المشترك فقد وجد من يشكك في كونه مشتركا ، فكل قطر له ثورته وأبطاله ، ثم ان له أسبابا تدفعه للظن بأن أية اضافة لتاريخ قطر آخر تعني سحبا من رصيده التاريخي ، فكل قطر هو الزعيم وهو الذي لا ينطق عن الهوى ، وهو محتكر الحقيقة!!
اما الجغرافيا فهي حتمية غير ذات معنى, فهناك عرب المغرب، وعرب الخليج، وعرب الهلال الخصيب، وعرب افريقيا، وعرب آسيا، وعرب الأنجلو فون، وعرب الفرانكفون ، وعرب البترول ، وعرب اللا -بترول ، وعرب الصحارى ، وعبر الوديان، وعرب السنة ، وعرب الشيعة .. الخ.
لم يعد المحيط هادرا, ولم يعد الخليج ثائرا .. بل تجرأ البعض ووصفوا العرب بأنهم ظاهرة صوتية، فالهدير لم يكن الا صوتا ، ومثله الثورة..
وأقفل القرن العشرون ابوابه ولايزال العرب يبحثون عن نقطة البداية, او نقطة النهاية, حيث أتي الهدير الحقيقي مع امواج العولمة المكتسحة كي تزيح من امامها تلك الأحلام البالية التي تتناثر في بعض بقاع الشرق الأوسط وفي بعض العقول المراهقة المرهقة ، ويأخذ النظام العربي مكانه التاريخي في فاترينة الزمن الى جوار حضارة الإنكا البائدة ،ومومياء الفراعنة.
لقد انكمش النظام العربي فأصبح اقصى تعبير عنه هو اغنية او حلم ، انسحبت افكار الوحدة لتحل محلها تهويمات شوفينية وصوفية ، الا ان ذلك لا يعني ولا يمكن ان يعني الإستسلام لهذا الواقع الكئيب فلابد ان تحل الصحوة محل الغفوة, ويتقدم من يحمل بوصلة الإتجاه الصحيح كي يعيد لجسد العروبة صحته وحيويته، لأن الإستسلام يعني ببساطة تسليم اقدار اجيال مقبلة الى مستقبل مظلم، كي يكونوا عبيد القرن الواحد والعشرين، واول خطوة في الطريق الصحيح هي ان نتحلى جميعا بقدر اكبر من الشفافية والإيثار, ان نفهم ارتباط مصيرنا الواحد على تلك البقعة من الأرض, ونتكاتف كي نزيل من فوقها باقي آثار التبعية والخنوع ..
ان أجيالا آتية في رحم الغيب تنظر الينا, وتنتظر منا ان نخوض آخر معاركنا من اجل الحرية .
الحرية الحقيقية التي تعني الكرامة والتقدم واستقلال الإرادة.. بالعمل .. العمل الكثير وقليل من الكلام والغناء.
---------------------------------------
بقلم : معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية الأسبق