في زمنٍ تتكالب فيه المصالح وتتغير فيه خرائط النفوذ الاقتصادي عالميًا، تبقى مصر — بتاريخها، وموقعها، وثرواتها الطبيعية والبشرية — أكبر من أن تُختزل في شعارات أو خطط مؤقتة.
مصر تملك من الكنوز ما يكفي لتصبح ضمن أقوى عشر دول اقتصاديًا، لكنها — للأسف — ما زالت تعيش دون مستوى قدراتها الحقيقية، لأن كنوزها تُهدر تحت أقدام البيروقراطية، وسوء الإدارة، والاحتكار، والخوف من القرار الجريء.
أنا هنا لا أهاجم، بل أضع الحقائق أمام صُنّاع القرار، وأقولها بكل وضوح:
لا تنمية حقيقية دون مواجهة صريحة مع الذات. ولا نهضة وطنية دون إرادة سياسية تضع المصلحة العامة فوق كل الحسابات.
أولًا: ثروات تحت الأرض... لا تعرف طريق الاستثمار الوطني
في باطن أرض مصر كنوز تفوق ما لدى دولٍ تُبنى اقتصادياتها على مورد واحد.
لدينا الذهب في الصحراء الشرقية، والفوسفات في الوادي الجديد، والرمال السوداء على سواحل البحر المتوسط، والنحاس والمنغنيز في سيناء، إضافةً إلى الغاز الطبيعي في البحرين الأحمر والمتوسط.
لكن المفارقة الكبرى أن عائد هذه الثروات لا ينعكس على حياة المواطن المصري.
السبب بسيط: لأن أغلب الاتفاقيات أُبرمت لصالح المستثمر الأجنبي، ولأن الدولة اكتفت بدور المراقب بينما الشركات الأجنبية تحصد الأرباح.
الحل واضح:
تأسيس “الهيئة الوطنية للثروات المعدنية والطاقة” تضم خبراء وطنيين مستقلين، تكون مهمتها إدارة الثروات تحت إشراف مباشر من القيادة السياسية، وتُلزم كل الشركات العاملة بنسبة استثمار محلي لا تقل عن 60%.
إعادة التفاوض على عقود الامتياز بحيث لا يخرج جرام من ذهب أو متر من غاز دون حصة عادلة لخزينة الدولة.
توطين التكنولوجيا التعدينية بإنشاء معامل مصرية لفصل المعادن وتكريرها بدل تصديرها خامًا، حتى تبقى القيمة المضافة داخل مصر.
ثانيًا: الثروة البشرية... أقوى كنز في مصر
لدينا أكثر من 30 مليون عامل يمثلون العمود الفقري للاقتصاد الوطني، لكنهم يُعاملون وكأنهم عبء وليسوا أصلًا من أصول الدولة.
العامل المصري الماهر لا يحتاج سوى إلى إدارة تحترم كفاءته وتعيد إليه كرامته.
المطلوب تنفيذ خطة وطنية شاملة لـ:
تطوير التعليم الفني والتدريب المهني بالشراكة بين الحكومة والنقابات والقطاع الصناعي، ليخرج العامل المصري مؤهلًا بأحدث التقنيات.
تحويل المناطق الصناعية إلى مجتمعات إنتاجية حقيقية توفر السكن والخدمات للعامل وأسرته.
رفع الحد الأدنى للأجور بشكل متناسب مع تكلفة المعيشة الحقيقية، لأن الأجور الحالية لا تواكب أسعار الغذاء والعلاج والسكن.
بدون عدالة اجتماعية في الأجور، لا يمكن أن تُبنى نهضة إنتاجية.
فالمواطن الذي لا يجد ما يسد رمقه، لا يمكن أن يُطالب بالانتماء والإنتاج.
ثالثًا: الطاقة والسياحة... بوابتان للثراء القومي
مصر تمتلك ثروة طاقة متجددة لا تُستغل.
الشمس تشرق 360 يومًا في العام، والرياح تهب في الصحراء الغربية، والبحار تمنحنا طاقة مائية يمكن أن تضيء القارة كلها.
ومع ذلك، ما زلنا نستورد الوقود ونغرق في فواتير الدعم.
الحل في تحويل كل قرية مصرية إلى وحدة طاقة نظيفة مصغّرة عبر مشاريع صغيرة ومتوسطة، تدار محليًا وتغذي الشبكة القومية.
أما في السياحة، فقد آن الأوان لتغيير فكر التسويق التقليدي.
لدينا كل مقومات السياحة العالمية: آثار، شواطئ، علاج، مناخ، وموقع فريد.
لكننا نحتاج إلى إدارة وطنية محترفة تديرها بعقلية السوق، لا بعقلية الموظف.
فلنفتح الباب أمام الشباب والمستثمرين المصريين لابتكار منتجات سياحية جديدة — السياحة الريفية، وسياحة الصحراء، والعلاج الطبيعي، والرحلات البيئية — فهذا هو الطريق لجذب العالم كله إلى أرضنا.
رابعًا: سيناء والصحراء الغربية... أمن قومي وتنمية حقيقية
لا يمكن الحديث عن تنمية دون تعمير سيناء والصحراء الغربية.
فالأمن القومي لا يتحقق بالسلاح فقط، بل بالسكان والتنمية والاستثمار.
نقترح:
إقامة 10 مدن جديدة في سيناء تعتمد على الزراعة الحديثة وتحلية المياه والطاقة الشمسية.
ربط سيناء بشبكات نقل وسكك حديد جديدة لتسهيل انتقال المواطنين والمستثمرين.
تحفيز الاستثمار الوطني في الأراضي الصحراوية من خلال منح حق الانتفاع الطويل الأجل بضمانات سيادية، مع اشتراط التشغيل للمصريين فقط.
بهذه الخطوات، تتحول الصحراء إلى حياة... ويتحول الفراغ إلى أمنٍ ونماء.
خامسًا: الإعلام والشفافية... مفاتيح الإصلاح
لن تقوم تنمية في ظل غياب الشفافية أو تكميم الرأي.
الإعلام الوطني الحقيقي هو الذي يواجه الفساد، ويكشف القصور، ويقترح الحلول، لا الذي يُزيّن الواقع أو يجمّله.
مصر بحاجة إلى إعلام تنموي حر، يرفع وعي المواطن ويضغط باتجاه القرار الصائب.
المسؤول الذي يخاف من الكلمة الصادقة، لا يمكن أن يصنع تنمية.
والدولة القوية لا تخشى النقد، بل تستمد قوتها منه.
خاتمة: مصر لا ينقصها المال... بل القرار
نحن نملك الموارد، والعقول، والشعب، والموقع، وكل مقومات النهضة.
ما ينقصنا فقط هو أن نقول الحقيقة بصوتٍ عالٍ، وأن ننفذ القرار دون خوف أو مجاملة.
لقد آن الأوان لفتح الملفات المغلقة، ومراجعة السياسات القديمة، ووضع رؤية تنموية مصرية خالصة لا تُقلّد أحدًا.
إن كنوز مصر المدفونة — من ذهبها إلى طاقتها إلى عقول أبنائها — تنتظر من يفتح الأبواب المغلقة بالعزم لا بالتردد.
فلتكن 2026 بداية لعصر جديد:
عصر الشجاعة في اتخاذ القرار.
عصر المكاشفة والمحاسبة.
عصر العمل من أجل مصر... فقط مصر.
-------------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي