هناك لحظات لا يسرقها الزمن، بل يسرقها الانتظار.
الانتظار ليس صبرًا دائمًا.. الانتظار لص العمر بل أحيانًا حالة خفية من الغياب عن الحياة. تعيش فيها بجسدك وتؤجل روحك إلى حينٍ لا تعرف متى تجئ .
و الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يقول " لا تُعلّق بناء حياتك على أمنيةٍ يلدها الغيب، فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير ."
هذه العبارة ليست مجرد حكمة عابرة، بل مرآة تُظهر أحد أعمق أخطائنا الإنسانية: أننا نؤجل الحياة، ثم نفاجأ بأنها مضت دون أن نعيشها.
الانتظار في ظاهره هدوء، لكنه في باطنه استنزاف للعمر. كثيرون لا يدركون أنهم لا يعيشون في الحاضر، بل في فكرة مؤجلة عمّا يمكن أن يحدث غدًا. ننتظر أن نتحسن، أن تتغير الظروف، أن يأتي الوقت المناسب، أن يهدأ الحال، أن يكبر الأبناء، أن نتقاعد، أن يعود الغائب، أن نستعد نفسيًا. نُطَمْئِن أنفسنا بأن الحياة أجمل عندما "تتهيأ الفرصة"، بينما الحقيقة أن الفرصة ليست إلا اللحظة التي نحياها الان .
دراسات كثيرة تكشف أن نسبة كبيرة من الناس لا تعيش أعمارها كاملة، بل تمضي نصفها أو أكثر في الانتظار والتأجيل والترقب ، يسمّي علماء النفس هذه الحالة بـ"الزمن المعلّق"، أي أن يكون الجسد حاضرًا بينما الروح مؤجلة إلى إشعار غير معلوم.
الانتظار المستمر يسرق منا طعم التفاصيل التي تشكّل جوهر الحياة ، متعة البداية، دفء اللحظات الصغيرة، ومذاق الرضا. هناك أشياء لا تُعوَّض عندما تفلت ، لحظة مصالحة مؤجلة، اعتذار لم يُقال، حب كُتم حتى ذبل، فكرة لم تبدأ حتى مات شغفها، ضحكة أُرجئت لحين فراغ مزعوم.
يقول عالم النفس فيكتور فرانكل: "الحياة لا تنتظر من يتهيأ لها، بل تمنح معناها لمن يباشرها كما هي." هذه الجملة وحدها كافية لتفكيك الوهم الذي يربط السعادة بالمستقبل. المعنى لا يأتينا لاحقًا، بل نصنعه الآن.
حتى في الدين، لم يكن الإيمان دعوة للانتظار السلبي، بل للحضور الفعّال ، ورسولنا الكريم صل الله عليه وسلم قال: "اغتنم خمسًا قبل خمس…" وهذه صيغة حياة لا تحتمل التأجيل، بل تستفز الإنسان إلى المبادرة.
الحقيقة المؤلمة أن الأعمار لا تُلتهم دفعة واحدة، بل تتسرّب ببطء تحت اسم "ليس الآن". نحن لا نخسر سنواتنا بالضياع الفجائي، بل بالتأجيل الصغير .. بعد قليل، لاحقًا، عندما تتحسن الأحوال. ثم يأتي اليوم الذي نكتشف فيه أن الأحوال لم تتحسن، والوقت لم يطُل، والدوافع لم تقوَ، لكن العمر وحده تغيّر.
الخطير أن الانتظار يمنحنا شعورًا زائفًا أننا نفعل شيئًا بينما نحن في الحقيقة نؤجل كل شيء. الذين عاشوا حقًا لم يكونوا أصحاب الحظوظ الأفضل، بل أصحاب القرار الأقرب. الذين بدأوا لم ينتظروا المثالية، والذين أحبوا لم ينتظروا اكتمال الظروف، والذين تغيّروا لم ينتظروا العلامة الفارقة.
شاهدتُ كثيرين يعيشون ظروفًا قاسية في الغربة لسنوات طويلة، ظنًّا منهم أنهم يدّخرون حياتهم ليوم عودتهم إلى الوطن، فتطول بهم سنوات الاغتراب، وللأسف ينتهي عمر بعضهم قبل أن يعيشوا ويتمتعوا بثمرة عملهم، ويعودون إلى أوطانهم في صندوق.
نحن لا نخسر العمر عندما نفشل، بل عندما ننتظر طويلًا قبل أن نحاول. والندم الأكبر في نهاية الطريق لا يكون على ما فعلناه، بل على ما تركناه معلّقًا حتى سقط دون أن نلمسه.
لا أحد يعرف ماذا يخبئ الغيب، لكن المؤكد أن ما نؤجله اليوم لن يعوّضه الغد. فالعمر لا يُستدعى، والزمن لا يناقش أحدًا قبل أن يمضي.
ليس من الحكمة أن نقف على هامش أعمارنا في انتظار موعد لا نعرف إن كان سيُطرق بابنا أم لا .. وقد تكون سعادتنا ممدودة أمامنا كراحة يد، لكننا نحجب عنها أبصارنا ونؤجّل لمسها حتى إشعارٍ قد لا يجيء. وقد نرهق الحاضر ونقهره بحجّة الغد الذي لن يأتي ، فالسعادة إن لم نلتقطها في لحظتها أفلتت، وتركت خلفها فراغًا لا يملؤه إلا الندم على ما أضعناه بأيدينا.
-------------------------
بقلم: سحر الببلاوي