13 - 10 - 2025

التعددية الترجمية

التعددية الترجمية

إعادة الترجمة: المفهوم والدوافع 

بمجرد طباعة النص المترجم ونشره، يصبح متاحًا لإصدارات جديدة أو ترجمات متعددة. هذه الظاهرة، أي إعادة الترجمة، تثير فضول الباحثين في مجال الترجمة. وإذا كان الاهتمام بدراسة هذه القضية وتأطيرها نظريًا أمرًا حديثًا نسبيًا، فإن عملية إعادة الترجمة نفسها قديمة ومرت بمراحل تطور عديدة عبر الزمن. فمنذ بيرمان ونظريته الرائدة حول إعادة الترجمة عام 1990، مرورًا بغامبييه الذي أكّد على نظرية بيرمان عام 1994 (غامبييه، 1994، ص 413) ثم عاد لينتقدها عام 2011 (غامبييه، 2011، ص 49)، وصولًا إلى مونتي وآخرين الذين يرون أن مفهوم إعادة الترجمة في تطور مستمر، نجد أن القرن الحادي والعشرين قد شهد حركة نشطة وخصبة في مجال إعادة الترجمة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو إعادة ترجمة الكتاب المقدس (الإنجيل) إلى اللغة الفرنسية. كما أظهرت مراجعة بعض الترجمات لأعمال التراث الأدبي أنّه من النادر أن نجد عملًا لم يُترجم إلا مرة واحدة.

تعريف إعادة الترجمة:

تطور معنى إعادة الترجمة عبر الزمن من مفهوم "ترجمة نص مترجم" إلى "إنتاج ترجمة جديدة". ففي القواميس ثنائية اللغة تُستخدم مصطلحات مثل retraduction أي "ترجمة نص مترجم"، و retraduire أي "إعادة الترجمة أو ترجمة نص مترجم من لغة أجنبية" (عبد النور، ص 906). أما في القواميس أحادية اللغة، فيُعرّف مصطلح re-traduction بأنه ترجمة نص مترجم أصلاً من لغة أخرى (روبير، 2011، ص 247). تتفق هذه التعريفات جميعها على أن إعادة الترجمة هي "ترجمة لترجمة" أي نص خضع لترجمة سابقة. وتُسمى هذه الترجمة في بعض الدراسات "الترجمة الوسيطة" أو "الترجمة الوسيطة الناقلة" (ماتوس، 2011، ص 42).

في المقابل، يعرّف كوسكينن (2018، ص 38) إعادة الترجمة بأنها "ترجمة جديدة تُنتَج في اللغة نفسها حيث توجد ترجمة سابقة للنص ذاته". وعلى مدار التاريخ، أعيدت ترجمة نصوص أدبية وغير أدبية مرات عديدة، وكما يشير لورانس فينوتي، فإن جميع عمليات إعادة الترجمة تشترك في هدف واحد: إضفاء "قيمة جديدة" (فينوتي، 2004، ص 25).

التعددية الترجمية وظاهرة إعادة الترجمة:

يرى الفيلسوف الفرنسي إرنست بينان أن "الأدب غير المترجم يمكن اعتباره أدبًا غير مكتمل النشر". من هذا المنظور، يمكن النظر إلى إعادة الترجمة باعتبارها معيارًا لقياس القيمة الأدبية والجمالية للنص. لكن هل يُعد هذا حقيقة ثابتة، أم أن هناك خلفيات وأسبابًا تجعل نصًا ما قابلاً للترجمة أكثر من غيره؟
يمكن أن تأتي الترجمات المتعددة في وقت واحد أو بشكل متتالٍ أو بفواصل زمنية بينها. وتُعتبر التعددية في الترجمة ظاهرة لافتة، فعملية الترجمة بوصفها نقلاً للنص إلى لغة أخرى تجذب قراءً جدداً وتتحول إلى عنصر فاعل في الثقافة الجديدة. وبهذا المعنى، تؤدي الترجمة دور الموزّع للنصوص والجسر الواصل بين اللغات.

لكن، هل يمكن اعتبار "إعادة الترجمة" محاولة لتجاوز التاريخ وإنتاج نسخة جديدة تتماشى مع الوضع اللغوي والحضاري الراهن؟ أم أن النسخ القديمة لم تعد تفي بالاحتياجات المعرفية والجمالية؟ أم أنها مجرد تقليد؟ ربما كان السبب أخطاء النسخ السابقة. والحقيقة أنّ أحدًا لا يعرف بشكل قاطع ما هو الدافع الحقيقي وراء "التعددية الترجمية". فقد يكون هذا التعدد راجعًا إلى التعدد الدلالي للنصوص الأدبية ذاتها، التي تتيح قراءات متعددة، حتى لو كانت متناقضة، من دون أن تقلل من قيمة الترجمات الأخرى.

من هنا يُطرح السؤال: ما الذي يدفع مترجمًا لترجمة عمل أدبي تُرجم سابقًا؟ وهل يكون على علم بأن العمل قد تُرجم بالفعل؟ غالبًا ما يضع المُترجمون الذين يترجمون نصًا مترجمًا مسبقًا ملاحظة في مقدمة عملهم يوضحون فيها أن النسخ السابقة لم تكن جيدة بما يكفي أو أنها "رديئة"، ويقدمون مبررات للقارئ. إن التعددية الترجمية لعمل معين تحمل قيمة تاريخية وثقافية بحد ذاتها، ويمكن أن تكون أرضًا خصبة للدراسات والمقارنات، كما يمكن أن تسلّط الضوء على النص الأصلي من زاوية جديدة، وغالبًا ما تكون هذه الزاوية ذات طابع أيديولوجي.

ويعرّف بعض الباحثين إعادة الترجمة بأنها "ترجمة جديدة في اللغة نفسها لنص سبق أن تُرجم كليًا أو جزئيًا". هذا المفهوم مرتبط بتفعيل النص وتطور أذواق المستقبلين واحتياجاتهم وكفاءتهم. وعملية إعادة الترجمة ليست مجرد مراجعة أو إعادة إنتاج للنص ذاته بل عملية خلق تصور جديد للعمل المترجم باللغة الهدف.

وظيفة التعددية الترجمية:

غالبًا ما يعجز القارئ عن قراءة النص بلغته الأصلية، لذلك يلجأ إلى الترجمات المتعددة ليستوعب النص بشكل أفضل. ومن هنا تنشأ وظيفة التعددية الترجمية كوسيط أو مفسّر يقدّم احتمالات متعددة للمعنى. كما أن الترجمة المتعددة تمثل سلسلة من "التصحيحات المتتابعة"، حيث تسعى كل نسخة جديدة إلى نقد ما سبقها وإبراز ما لم يلحظه الآخرون، فتؤدي وظيفة نقدية وتصحيحية في الوقت نفسه.

دوافع إعادة الترجمة:

يرى محمد عبد الغني حسن (1986) أن "طبيعة النص الأصلي" هي السبب الأساسي وراء تعدد ترجماته؛ فكلما ارتفعت قيمة العمل الأدبي في لغته الأصلية، زادت أهمية إعادة ترجمته. وأحيانًا تكون الترجمة السابقة بحاجة إلى إعادة ترجمة، سواء بالتزامن أو بالتعاقب، بحيث تصبح الترجمة نفسها حافزًا لإنتاج أخرى.

إحدى الدوافع المهمة أيضًا هي "متعة النص" كما يصفها رولان بارت، أي تلك المتعة التي يشعر بها القارئ أو المترجم عند التعامل مع النص. هذه المتعة تُترجم إلى إعادة قراءة، تحليل، تفسير، أو ترجمة جديدة، وتنتقل إلى الثقافة المستقبِلة عبر النصوص المترجمة.

كما قد تكون إعادة الترجمة وسيلة لفهم أعمق لثقافة النص الأصلي أو لتقديم تأويل جديد له. ويشير غامبييه (1994) إلى أن إعادة الترجمة قد تضيف "معنى جديدًا لمعارف المترجم بالنص المصدر وثقافته" (ص 414). ويرى براونلي (2006) أن "تطور المعايير الترجمية وتغير الظروف الاجتماعية" من أهم أسباب إعادة الترجمة. فيما تؤكد دين (2010، 2014) أن الدوافع الأساسية تنبع من عناصر داخلية (لغوية وثقافية) وأخرى خارجية (نصية وفوق-نصية)، داعية إلى دراسة هذه العوامل بوصفها شواهد على الأسباب الاجتماعية لإعادة الترجمة.

إعادة ترجمة الأعمال الأدبية:

الترجمة الأدبية بطبيعتها عمل إبداعي وتحدٍّ مستمر، ولذلك فإن الأعمال الكلاسيكية تُعاد ترجمتها كثيرًا. ومن أبرز دوافع ذلك: ذاتية المترجم، إعجابه بكاتب أو نص معين، أو عدم رضاه عن الترجمات السابقة. فالنص الأدبي يتيح دومًا قراءات وتأويلات جديدة، كما أن أسلوبه وجماليته يجعلان إعادة ترجمته أكثر احتمالًا مقارنة بأنواع النصوص الأخرى.

سلبية التعددية الترجمية:

يرى بعض النقاد أن كثرة الترجمات العربية مثلًا تجعلها متشابهة إلى حد كبير، وبالتالي أقل فائدة. وقد يُفسر هذا بظهور عدة ترجمات متزامنة في بلدان ذات ثقافات متشابهة أو مختلفة، لكن هدفها يبقى واحدًا وهو نقل النص الأصلي. إلا أن هذا التفسير يُنتقد لأنه يُبسّط المسألة كثيرًا، فالترجمة بطبيعتها قائمة على "الاختلاف". كما أن هذه الرؤية تُظهر بوضوح أثر ذاتية المترجم في علاقته بالنص الأصلي ومستواه الثقافي. وحتى في حال وجود تشابه، فهذا لا يعني أن الترجمات نسخ متطابقة.

إيجابية التعددية الترجمية:

على الجانب الآخر، هناك جوانب إيجابية للتعددية الترجمية، إذ إنها تمنح اللغة الهدف (TL)  ثراءً وعمقًا، وتكشف عن جمالياتها وإمكاناتها التعبيرية. كما أنها تتيح معاني جديدة وتوسع آفاق التلقي. وبالاستناد إلى قول أوكتافيو باث (1971) إن "كل النصوص هي ترجمات لترجمات لترجمات"، نجد أن هذا التصور يعكس فكرة تيري إيجلتون (1977) التي ترى أن "كل نص هو مجموعة من التحولات المحددة لنصوص أخرى”. ويضيف باث أن كل نص فريد من نوعه وفي الوقت ذاته ترجمة لنص آخر، فاللغة ذاتها ترجمة للعالم غير اللفظي، وكل علامة أو جملة هي ترجمة لعلامة أخرى. ومن زاوية أخرى، كل ترجمة نص أصيل لأنها ابتكار بحد ذاتها.

غاية إعادة الترجمة:

قد يصبح فعل إعادة الترجمة بلا جدوى ما لم يكن هدفه معالجة أوجه القصور في الترجمات السابقة أو تحسين جودتها. لذلك غالبًا ما تُسوّق الترجمات الجديدة بوصفها "إصدارات محدّثة" أو "بديلة"، حتى لو لم تكن بالضرورة أفضل من سابقاتها. وتظل مسألة التعددية الترجمية موضوعًا إشكاليًا في دراسات الترجمة، لكنها في حد ذاتها دليل على أن الترجمة بطبيعتها عملية غير حتمية. فكل ترجمة هي عمل فني فريد رغم أنها مستمدة من نص واحد، لكنها تشترك مع ترجمات أخرى في كونها محكومة بالبيئة الاجتماعية ذاتها التي تؤثر في قراءة المترجم وتفسيره.

ولا غرابة أن تعطي قراءات لاحقة للنص الأدبي "انطباعات مختلفة" عن القراءات الأولى، ما يجعل الترجمة عملية مفتوحة على تعديل دائم. وهذا ما يفسر ظهور ترجمات متعددة للنص نفسه على أيدي مترجمين مختلفين، وبخلفيات ثقافية متنوعة.

من المهم لفت الانتباه إلى أن تعدد الترجمات لعمل أدبي واحد يشير إلى وعي بأهمية هذا العمل، غير أنّه في الوقت نفسه يعكس ضعف التنسيق بين المترجمين، الأمر الذي يبرز الحاجة إلى إعداد قائمة عامة بالكتب المترجمة، حتى لا تُعاد ترجمة العمل ذاته مرارًا وتكرارًا، مما يؤدي إلى هدر الجهود. فمثلاً، كان من الأجدر ترجمة كتاب آخر لتشومسكي بدلًا من إعادة ترجمة العمل نفسه، خاصة وأن المترجم اللاحق يبدو أنه لم يطّلع عن قصد أو عن غير قصد على الترجمة الأولى. ومن دون إصدار حكم مسبق على النتائج، يبدو أن الترجمة الثانية قد تُعد في بعض الحالات مضيعة للوقت والجهد. ومع ذلك، أثبتت الدراسات عمليًا أن بإمكان كل مترجم أن يقوم بإعادة ترجمة أي عمل أدبي شريطة أن تتضمن إضافات جديدة، أو رؤية مغايرة، أو مقاربة إبداعية وأسلوبًا متميزًا؛ أما في غياب ذلك، فإن إعادة الترجمة تصبح مضيعة للوقت ولا قيمة لها.

----------------------------------

بقلم: د. دنيا عبدالرحمن


مقالات اخرى للكاتب

المتحدث العسكري: أصوات الانفجارات بالهايكستب ناتجة تفكيك مخلفات قديمة