من يتأمل خريطة الأحداث في المنطقة منذ أن وطأت أقدام دونالد ترامب البيت الأبيض، يدرك أن الرجل لم يكن رئيسًا بالمعنى التقليدي، بل كان تاجر صفقات يجيد تسويق الوهم وبيع الأوهام. لقد دخل عالم السياسة وهو يحمل عقلية المقاول الذي يزن كل شيء بالدولار، فحوّل السياسة الخارجية إلى شركة استثمارية، وجعل من القضية الفلسطينية بوابة للابتزاز والمساومة، واعتبر أرض غزة ورقة للبيع والشراء. لكن الحقيقة أن ما يقدمه ترامب حتى هذه اللحظة ليس سوى أكبر عملية خداع سياسي في تاريخ الصراع، عملية تستهدف اقتلاع شعب من أرضه وتشويه هوية أمة بأكملها.
خطة ترامب التي سُميت زيفًا بـ"صفقة القرن" لم تكن سوى ستار دخاني يخفي مشروعًا صهيونيًا أمريكيًا هدفه النهائي هو دفن القضية الفلسطينية تحت أنقاض الوعود الكاذبة. فبدلًا من الاعتراف بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، يسعى ترامب إلى تزييف الوعي العالمي عبر طرح خطة على أنها سلام عادل، بينما جوهرها في الواقع هو إلغاء القدس كعاصمة لفلسطين، شرعنة الاستيطان، وتحويل غزة إلى مجرد منطقة معزولة تُدار بالمال والإغاثات لا بالسيادة والكرامة.
لقد استغل ترامب معاناة غزة من الحصار والدمار، وحاول أن يوظف آلام أهلها في مشروعه المشبوه. يلوّح بمليارات الدولارات كرشوة سياسية، يريد بها أن يقايض الشعب على أرضه مقابل حياة مؤقتة تحت رحمة المعونات، متجاهلًا أن الفلسطيني لم ولن يبيع وطنه حتى لو جاع أو حُرم من أبسط الحقوق. يتخيل ترامب أن المال قادر على شراء التاريخ، وأن بعض المشاريع الاستثمارية الهشة قادرة على محو ذاكرة شعب، لكنه ينسى أن الدم الذي رُوي على أرض غزة أقوى من كل ملياراته، وأن الحق الفلسطيني لا يُقاس بالأرصدة البنكية بل بعزيمة الأجيال التي ورثت المقاومة كهوية وكرامة.
ولم يكن ترامب وحده في هذه الجريمة، بل نسج خيوطها مع لوبيات صهيونية وأذرع إقليمية، بعضها انجرف تحت ضغط الابتزاز، وبعضها الآخر انساق وراء الوهم، ظنًا منه أن الرضا الأمريكي يحميه أو يمنحه شرعية. هكذا تحولت بعض الأطراف العربية إلى أدوات في مشروع التصفية، بعضها بالصمت وبعضها بالتواطؤ، فيما كان الإعلام الموجه يروّج لأكذوبة "السلام الاقتصادي" الذي لا يعدو كونه مشروعًا لطمس الحدود وسحق السيادة.
الخداع الأكبر هو في محاولات ترامب تصوير نفسه كصانع للسلام، بينما الحقيقة أنه يعمل على إعادة رسم حدود المنطقة بأكملها وفق مصالح الاحتلال. فغزة في مخططه ليست مجرد أرض فلسطينية، بل هي المفتاح الذي يفتح الباب لابتلاع ما تبقى من الضفة، ويفرض واقعًا جديدًا يقضي على أي أمل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة. إنه يريدها كيانًا منبوذًا يُستخدم لتبرير التهجير وتفريغ فلسطين من مضمونها الجغرافي والسياسي.
لكن رغم قسوة المؤامرة وضخامة آلة الضغط الأمريكي، تتساقط خطة الخداع أمام صمود غزة. لم تنكسر الإرادة الفلسطينية رغم الحصار والحروب والدمار، بل ازدادت قوة وصلابة، وتحولت إلى رمز عالمي للكرامة ورفض الانكسار. لقد فشل ترامب في أن يحوّل غزة إلى ورقة للبيع، لأنها ببساطة أرض لا تُشترى ولا تُباع، وهوية لا تقبل المساومة. بل إن خطته أعادت توحيد الوعي العربي والإسلامي، وكشفت حقيقة المشروع الأمريكي أمام العالم أجمع، وأكدت أن كل ما يسمى "صفقات سلام" ليست سوى غطاء سياسي لشرعنة الاحتلال.
وهنا لا بد أن نذكر الدور المحوري لمصر التي لم تنجر وراء الخداع الأمريكي، بل أدركت مبكرًا خطورة المخطط. فمصر التي دفعت أثمانًا باهظة دفاعًا عن فلسطين، كانت وما زالت صمام الأمان في مواجهة مشاريع التصفية. لقد حاول ترامب وفريقه تمرير فكرة التوطين أو إعادة رسم الحدود عبر معبر رفح وتغيير طبيعة غزة، لكن مصر تصدت لهذه المحاولات، وأكدت أن أمن غزة من أمنها، وأن سيادة فلسطين جزء لا يتجزأ من أمنها القومي. هذا الموقف المصري الحاسم كان صخرة تحطمت عليها أطماع ترامب، وأكد أن الأمة لم تمت بعد، وأن بوابة العروبة لا تزال قادرة على حماية القضية.
إن ما يجري اليوم في عهد ترامب يفضح بوضوح أن الولايات المتحدة لم تكن يومًا وسيطًا نزيهًا، بل كانت الطرف الأصيل في المؤامرة، وأن كل المبادرات التي تخرج من واشنطن ما هي إلا أدوات لشرعنة الاحتلال وإلباسه ثوب الشرعية الدولية. ما يسمى صفقة القرن لم تكن سوى وثيقة استسلام مكتوبة بيد صهيونية وبحبر أمريكي، يحاولون فرضها على أمة بأكملها، لكن الوعي الشعبي العربي والإسلامي يرفضها، وصمود الشعب الفلسطيني يفشلها.
ورغم أن ترامب ما زال يحكم أمريكا ويحاول استكمال مشروعه، فإن المؤامرة تتهاوى أمام صمود غزة. فالثابت أن غزة ستظل عصية على الابتلاع، وأن كل محاولات الخداع مهما تنوعت ستسقط أمام إرادة شعب اختار أن يعيش حرًا أو يستشهد. غزة ليست أرضًا معروضة في سوق الصفقات، بل هي قلعة صامدة بدماء شهدائها، ورمز خالد للكرامة الإنسانية.
إن ما يسمى بخطة ترامب ليس إلا جريمة تاريخية موثقة في حق الإنسانية، جريمة تحاول أن تسرق وطنًا بأكمله باسم السلام، وأن تبتلع أرضًا كاملة باسم التنمية. لكنها تكشف في المقابل زيف المشروع الأمريكي وتعرّي حقيقة السياسة الغربية التي طالما تغنّت بالديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما هي أول من يدوس عليها حين يتعلق الأمر بفلسطين.
ترامب ليس سوى واجهة لمشروع استعماري قذر، يستهدف غزة لابتلاعها كما يبتلع اللصوص ما ليس لهم، لكن غباءه السياسي ووقاحته العلنية تفضحه أمام العالم. يحاول أن يبيع فلسطين كما يبيع قطعة أرض في مزاد علني، ويقف بجواره نتنياهو ليصفق لهذا العبث، لكنهما يجهلان أن غزة ليست عقارًا، وليست مزرعة، وليست ساحة تجارية. غزة أرض الشهداء، وساحة المقاومة، وعنوان الكرامة.
لن تنطلي الخديعة الأمريكية على الشعوب بعد اليوم، ولن يُخدع الفلسطيني ولا العربي بوعود ترامب أو تهديداته. فكلهم وجوه لنفس المشروع الاستيطاني الاستعماري، وكلهم شركاء في الجريمة. نحن أمام صراع وجود لا صراع حدود،
-------------------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي