13 - 10 - 2025

رشقة افكار | "طلقة حبر"..صنع في مصر! (١-٢)

رشقة افكار |

(مهداة إلى صانع صحف عظيم في يوم ميلاده الثامن والسبعين )

—————————-

صنع في مصر ..شعار مهما بلغ خلافنا مع السلطة، ومهما شعرنا بالاغتراب داخل الوطن، نتيجة سياساته التي نرفضها ونراها ضارة بمستقبل بلادنا ، إلا أنه شعار يرتبط بالوطن لا بالحكام .. نقرؤه فيهديء من روعنا  ويطمئننا من مخاوف المستقبل .كافحنا كفاحًا مريرًا على مدار سنوات من أجل أن ننتج وأن نصنع وان نبني وأن نتقدم ، وأن نحلم بالمستقبل . ننتج مما لدينا من إمكانيات وثروات طبيعية ..نآكل مما نزرع ونصنع مما نستكشف ونستخرج من باطن الآرض .حلمنا بالصواريخ القاهر والظافر ، وببناء مصانع لإنتاج هذه الصواريخ ، التي اغتال الموساد علماءها الألمان وربما مصريين أيضا ، في سلسلة من الإجرام الصهيوني لم تتوقف ، كان ذروتها اغتيال عالمين مصريين احدهما في الجغرافيا والآخر في الذرة .. الأول هو جمال حمدان صاحب شخصية مصر ، والثاني هو يحيي المشد الذي أغتيل وهو يقود البرنامج  النووي العراقي .وغير هؤلاء وأولئك  كثيرين..مطلوب منك أن تبقى رهين الاستعمار ،حتى ولو بطريق الاحتلال غير  المباشر .

طلقات العلم محكومة بالعالم .. طلقات البحث والابتكار محكومة بالقوانين الدولية .. "طلقات الحبر" محكومة بالحرية .. طلقات مرعبة تواجه الظلم والفساد والاستبداد ..تنير العقول وتثري المباديء وتصنع للعالم قيمًا بل ومذاقًا مختلفًا ؛ طلقات السلاح اخطر وأشد رعبًا ، لأنها - في جوانب مضيئة منها فقط-  تعني المقاومة ، وكلمة مقاومة تصيب  في مقتل الاستعمار الجبار .. قديمه وحديثه.. من عصر الهكسوس إلى زمن الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس ، وصولا إلى وريثها الحالي الإمبراطورية الأميركية ! طلقات الإبداع محكومة بأعداد مستهلكي الإبداع .. هي إذن محكومة بقيود أقل ..فلا يحصل عربي مثلا يناضل في كتاباته ضد الصهيونية على جائزة نوبل ، ولا يترك مفكر يفند الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية - مثل رجاء جارودي- كي يعيث في العقول نقدًا وتصحيحًا وتنويرًا و  فضحًا للسياسات الاسرائيلية وهدمًا لأسس الترويج  الصهيوني  لما يعرف عالميًا ب "محرقة  الهولوكوكست " .. من دون تأديب وتغريم وإصلاح وربما السجن!

في مصر كان هناك كاتبان معروفان اهتما بهذه الأفكار .. ليس معنى هذا أن غيرهما لم يهتم به ، لا اقصد ذلك ، وإنما هناك خط واضح ودائم ومستمر ، ترسمه سطور وافكار كل منهما .الكتاب العروبيون المقدرون لجمال عبد الناصر برعوا في ذلك ..من عبد الله إمام إلى أحمد الجمال  ومن أحمد بهاء الدين إلى صلاح عيسى .. ومن شفيق أحمد على وعبد الله السناوي إلى عبد الحليم قنديل وعمار على حسن .

عبد الله إمام كتب عن جاسوسية مصطفى أمين وأحمد الجمال رد غائلة الأعين وماتخفي الصدور عن حقبة الزعيم عبد الناصر التي ملأها المشوهون بالخزعبلات والأكاذيب والتلفيق وقدم وجها حقيقيا لنضال مصر ضد الاستعمار والاستبداد ، وصلاح عيسي كتب عن الاستبداد وأفنى  حياته في إذكاء قيم الحرية والديمقراطية والنضال ضد الاستعمار من حادث دنشواي ومقتل شهدي عطية الشافعي في السجن وإيداع إسماعيل المهداوي في الموريستان ( مستشفي الأمراض العقلية ) وصولا إلي تنظيم ثورة مصر وتوثيق وقائع الأعمال البطولية  التى قام بها محمود نور الدين وخالد جمال عبد الناصر (..هل تذكرونه؟!)

عبد السناوي منذ ان كان في دار الموقف العربي وهو ينتهج نفس الخط النضالي العروبي المقاوم القائم على الدفاع عن فلسطين وان الأمن القومي لمصر يبدأ من هذه الحدود ، ويتجاوزها إلى دمشق ، وكتب عن الرئيس ناصر واحدًا من اهم الكتب وهو "أخيل جريحًا"  من إصدارات دار الشروق ) وكتب عبد الحليم قنديل عن " عبد الناصر الأخير " وتناول فيه آخر طبعة من عبد الناصر كما ترويها وقائع دونت في سجلات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي وجلسات مجلس الوزراء .. روى لنا بالوثائق والمستندات كيف كان يفكر عبد الناصر في السنوات الثلاث الأخيرة من عمره.. حزبان سياسيان ومشاركة ديمقراطية واسعة  وبناء القوات المسلحة  ….

شفيق أحمد على كتب عن البطل الفذ سعد حلاوة ابن قرية كفر تصفا ..المولود في ٢مارس ١٩٤٧  والمتوفي في ٢٦فبراير ١٩٨٠. هو مزارع من محافظة القليوبية ويعتبر أول مصري يفقد حياته ثمنا لرفض التطبيع .كتب شفيق أحمد على كتابه الأول  بعنوان من قتل سعد حلاوة-  ( الثاني بعنوان المرأة التي احبها عبد الناصر ، والثالث  عن المخدرات  بعنوان أفيون وبنادق "لا اذكر تحديدًا وربما لم ير الكتاب  النور !)- توثيقا لموقف مصري جسور يعبر عن إرادة مصرية عارمة رافضة  ومناهضة للتطبيع ، مع كل الجرائم التي ارتكبت من العدو الصهيوني ضد الشعب المصري وشعوب عربية أخرى ، من احراق عمال مصنع أبو زعبل بالنابالم إلى اغتيال البراءة بقصف همجي مرعب وغادر ومشين لمدرسة بحر البقر الابتدائية (التي  خرج علينا أحد زملائنا واصدقائنا يدعو شعبنا إلى نسيانها!! والمعنى في نسيانها واضح ، ولهذا قلت له في مقالي السابق المنشور هنا يوم ٤ اكتوبر ٢٠٢٥ بعنوان "لتتذكر انت الهولوكوست أما نحن فلن ننسى بحر البقر ").

كل هذه الكتابات كانت تتحدث عن عروبة مصر واهمية الوحدة العربية ومحددات الأمن القومي المصري وتنادي بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان .. وتنادي بالبناء والتشييد على أسس علمية وبحثية مدروسة .. لاترهن المستقبل لأحكام وفرمانات المستعمر ..كتابات قاومت الهزيمة ، ورأت في محاولات التغيير ضوءًا في آخر النفق ، ولذا تجد أن "الجمال " "والسناوي" من اهم الأصوات التي أجرت مراجعات عن اخطاء الممارسة الديمقراطية والحياة السياسية في  الفترة الناصرية ، خاصة فيما يتعلق بسجن وقمع المعارضين وما ترتب على ذلك من اخطاء أدت لإهدار الكرامات  واستشهاد بعض المعارضين في السجون آنذاك .

كان هذا ملمحًا  من الملامح المهمة لكتاب مصر الذين ذكرت بعضهم ، الذين علمونا الكثير وكشفوا لنا سحر الكلمة وشرفها واهمية المعلومات التي هي حق للجميع ، وكان اهتمامهم الفكري والأيدولوجي والثقافي باعثًا لهم على التنقيب والبحث ونقل المعلومة ..ف"من حقك تعرف" كما عنون وأسمى الكاتب الكبير عادل حمودة  برنامجه الجديد (على يوتيوب ) الذي يتقدم بخطى واثقة في عيون المشاهد المصري والعربي ، عنوانه  "من حقك تعرف".. والذي تخطى متابعوه اليوم حاجز نصف المليون .

الكاتبان الكبيران اللذان نقلا إلينا بانتظام مايجري في العالم ، وأطلعانا عليه باستمرار ، أولهما هو الأستاذ هيكل . محمد حسنين هيكل .. الذي أعاد خلق وصناعة أهرام سليم وبشارة تقلا وأنطون الجميل . صنع بقدرة صانع صحف فذ صحيفة واحدة هي "الأهرام" وأنا أعتبر عهده هو عهد المجد في الأهرام ..خلق وصنع صحيفة ، لكنها ايضاً أصبحت مؤسسة ، فيما بعد أصدر منها صناع صحف عديدون مجلات وصحفًا اخرى (هذا مافعله أيضًا  الأخوان مصطفى وعلى أمين في دار اخبار اليوم ، ومحسن محمد في الجمهورية وابراهيم سعده في اخبار اليوم ، وإن كان لكل منهم خط معين يختلف عن خط الأستاذ هيكل)

الأستاذ هيكل كان أول وأهم وأكثر من حدثونا عن قانون حرية المعلومات الاميركي .. ونحن في ٢٠٢٥ مازلنا عبر نقابة الصحفيين نطالب بتدشين هذا الحق وحصولنا عليه كأهم مصدر لحماية حرية الصحافة ، فهي بالدرجة الأولى حماية حق الصحفي في المعرفة وتوصيل المعلومة للناس . كتابات الأستاذ هيكل وكتبه وأحاديثه كانت تتحدث دوما عن استخدامه لقانون حرية المعلومات الاميركي ، ومن هنا حصل على وثائق ومعلومات عبر اصدقائه الاميركيين في كبريات الصحف الاميركية. كتب لنا هيكل في كل شيء ، من الأمن القومي المصري ومحدداته ومعايير تحققه ، إلى ذكر ماجرى في سنوات الغليان وحرب السويس، برصانة ورشاقة كاتب يحفظ أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر ، ويتمتع بذاكرة حديدية وأسلوب أدبي لا يبارى ، فيتحدث عن السياسات الاستعمارية للغرب والولايات المتحدة وهو يروي لك في الوقت نفسه حكاية عن كيفية صنع السيجار الكوبي الفاخر المفضل لديه، ولعله الصحفي الوحيد  الذي انتهك قواعد البروتوكول ، فعلى حين كان ينتظر الدخول إلى الرئيس الاميركي إذا به يشعل سيجارًا كوبيا من النوع الفاخر ! انقلبت الدنيا في البيت الأبيض من " تلك الرائحة " وهرع اليه وزير الخارجية الاميركي ليحذره من أن أي منتج كوبي خصوصا السيجار ممنوع فى البيت الأبيض( القصة رواها هيكل في كتاب له .. وشاع عنه قوله أن السيجار الكوبي يتم لفه على أفخاذ العذاري الكوبيات ..أظن انها كانت إشاعة نسب اليه قولها!)

الكاتب الثاني الذي أردت أن أحدثكم عنه هو صانع السحر .. الذي علمنا سحر الصحافة وفنونها.. بعد الأستاذ هيكل أُكِنُ  تقديرا كبيرا لكتاب أبرزهم عادل حمودة ( من بينهم  نبيل عبد الفتاح ، عبد الله السناوي ، عبد الحليم قنديل ، عمار على حسن). وعادل حمودة هو إِمام  صُنّاع الصحف في مصر ..إِمامٌ  في مهنته ..خلق " روزا اليوسف " وأحياها من الموات الذي دخلته إكلينيكيا وأخرجها من غرفة الانعاش عام ١٩٩٣،  وبوصفة دواء ناجحة صنع صحافة لاتموت . الوصفة أبدعها مايسترو تلميذ للمايسترو الأكبر الفنان صلاح حافظ ..احد اعظم واهم كتاب مصر في سبعينيات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي .. والذي مرّ بتجربة احياء روزا اليوسف من العدم في سبعينيات القرن الماضي ، عندما عينه أنور السادات رئيسا لتحريرها في عهدة عبد الرحمن الشرقاوي ، الكاتب والشاعر الكبير وصديق السادات ، ولكنهما دفعا منصبيهما بعد انتفاضة الخبز عام ٧٧، حيث أصر صلاح حافظ على انها انتفاضة شعبية ، بينما السادات وصفها بأنها انتفاضة حرامية ! فكان أن وئدت تجربة صلاح حافظ الذي رفع التوزيع إلى مايناهز المائة ألف تقريبًا .

غدا نكمل المقال احتفاء بميلاد صانع صحف عظيم ..كانت حياته - أطالها الله -  بمثابة " طلقة حبر " !

-----------------------------------

بقلم: محمود الشربيني

مقالات اخرى للكاتب

رشقة افكار |