المقال التالي كتبته في يونيو 2024 تعليقا علي مبادرة للرئيس الأمريكي السابق بايدن ، وعندما سألتي أحد الصحفيين عن رأيي في مبادرة الرئيس ترامب الأخيرة ، لم أجد أفضل من ذلك المقال القديم رداً ..
وفيما يلي نص المقال القديم دون أي تعديل :
"المتأمل إلي خطاب بايدن الأخير الذي تضمن إقتراحات في أزمة غزة ، تشبه برنامجا قديما كان عنوانه : " من كل فيلم أغنية " ، فهي شطرات تبدو متقنة الصياغة ، تلبي الكثير من مطالب الطرفين علي شكل حلقات منفصلة متصلة ، وأغلبها عناوين ستخضع في التطبيق للغرق في محيط من التفاصيل.
لقد شهدت منطقة الشرق الأوسط هذا الفيلم مرات عديدة ، واسمه التجاري " السلام " ، بينما أسمه الحقيقي " الغموض البناء Constructive Ambiguity، وهي صيغة تعطي لكل طرف ما يمكن أن يدعيه مكسبا تفاوضيا ، بهدف تجميد الأزمة بأسلوب اللقطة الثابتة ، لحين انتهاء الأطراف من الغوص في تفاصيل تفسير كل طرف لما تم طرحه .
شاهدنا ذلك في صياغة قرار مجلس الأمن رقم 242 ، حملت ديباجته النص علي مبدأ عدم جواز الإستيلاء علي أراضي الغير بالقوة ، إلا أن الفقرات التنفيذية حملت ما يجعل صياغة الديباجة بمثابة تعبير لغوي فارغ من المحتوي ، ومن المعلوم أن ديباجة الوثائق لا تحمل قوة قانونية مماثلة للفقرات التنفيذية التي تعبر عن صلب إرادة النصوص .
وهكذا حارت الأطراف العربية وهي تتعارك مع تفسيرات إسرائيل لكلمة " الأراضي" التي وردت في النسخة الإنجليزية بدون حرف التعريف فأصبحت مجرد " أراض" ، وصممت إسرائيل علي أن القرار لا يلزمها بالإنسحاب من كل الأراضي ، ثم أنكرت أن المعادلة هي " الأرض " مقابل " السلام " ، وقذفت بعشرات التفسيرات ومنها مثلا " الأمن " مقابل " السلام " ...إلخ
ولكي نتتبع كل ما قيل من تفسيرات حول هذا القرار فربما نحتاج إلي كتاب كامل وليس مجرد مقال ، ولكن الخلاصة أن الصيغة التي كتب بها القرار بواسطة دبلوماسي انجليزي محنك ، كان يهدف إلي إيجاد بوابة للخروج من أزمة حالة ، ولا يهم بعد ذلك أن يتشابك الأطراف فيما بعد خروجهم من تلك البوابة ، والحقيقة أن كل طرف خرج راضيا وهو يعلم - وربما دون أن يدرك - أن القرار مليء بالألغام .
ويمكن تفصيل ذلك في كل الوثائق التي تم الإتفاق عليها بين العرب وإسرائيل ، بداية من اتفاقيات الهدنة في رودس عام 1949 إلي اتفاقات السلام مع مصر والأردن ، وإتفاق أوسلو مع الفلسطينيين ، وكل اتفاقات وقف إطلاق نار ، لم يحترمها الأسرائيليون .
وأزعم أن تمدد الصراع العربي الإسرائيلي لمدة ثلاثة أرباع قرن ترتب علي أسباب عديدة ربما أهمها تلك الصيغة الشيطانية التي يطلق عليها " الغموض البناء " constructive ambiguity ، لأنها تخدم الطرف الاقوي الذي يحتل الأرض بالفعل ولديه من القدرات العسكرية ما تتيح له المماطلة في إستغلال الغموض كي يحقق أكبر المكاسب التفاوضية لصالحه .
ولا تبعد مقترحات بايدن الأخيرة عن تلك الصيغة رغم أنها حملت مضمون المقترحات المصرية التي رفضتها إسرائيل ووافقت عليها حماس ، ولكنه شبكها كما ذكرت بحلقات منفصلة متصلة ، تعطي لأي طرف فرص التحلل من الإلتزام بحلقة تالية بحجة عدم التزام الطرف الآخر وهي مناورة تجيدها إسرائيل وتلعبها طول الوقت.
وفي تقديري ، لا تزيد مقترحات بايدن عن لعبة سياسية داخلية تساعد بايدن في الإنتخابات القادمة ، وتخفف الضغوط علي نتنياهو ، وليس لدي شك أن هذين الطرفين متفقان علي إعتماد هذه الصيغة الشيطانية لأسبابهما السياسية الداخلية .
وحيث أن تلك المقترحات تحمل بلا شك بعض العناصر الإيجابية ، فريما يجدر بالمفاوض الفلسطيني أن يرحب بتلك العناصر فقط ، وعليه أن يطالب صاحب " المبادرة " أن يعيد صياغتها بشكل صياغة قرارات مجلس الأمن الملزمة ، ويتم طرحها في مجلس الأمن بحيث تحمل العناصر التالية في الفقرات التنفيذية :
- وقف إطلاق النار الشامل .
- إنسحاب القوات الإسرائيلية من غزة .
- إطلاق متزامن لأسري الحرب علي الجانبين بالنسب المتفق عليها .
- تعيين إدارة تكنوقراط فلسطينية بالتنسيق بين كل الفصائل الفلسطينية وتحت إشراف ورقابة الوسطاء العرب والولايات المتحدة الأمريكية .
- عقد مؤتمر المانحين لإعادة إعمار غزة في شرم الشيخ .
- عقد مؤتمر للسلام تشارك فيه إسرائيل والدول العربية ، لوضع خطوات إعلان الدولة الفلسطينية "خلال عامين .
-----------------------------------
بقلم : معصوم مرزوق
• مساعد وزير الخارجية الأسبق