12 - 10 - 2025

غداء في بيت الطباخة: أفكار تنتصر للحياة

غداء في بيت الطباخة: أفكار تنتصر للحياة

  محمد الفخراني كاتب مصري من مواليد محافظة البحيرة في  مارس 1975م لفت الانتباه منذ أصدر مجموعته القصصية الأولى بنت ليل حينما حصل على الجائزة الأولى للقصة القصيرة من نادي القصة بالقاهرة عام 2002 وتوالت جوائزه فحصل على جائزة يوسف إدريس عن مجموعته (قصص تلعب مع العالم) 2012 و جائزة الدولة التشجيعية في نفس العام عن مجموعة (قبل أن يعرف البحر اسمه) وبعد سنتين جائزة معهد العالم العربي في باريس عن روايته (فاصل للدهشة) عام 2014 وجائزة معرض الكتاب 2024 محمد عن روايته (غداء في بيت الطباخة). درس علم الجيولوجيا ويعمل كباحث جيولوجي الآن.

الملاحظة الأولى على العنوان أول عتبة من عتبات النص أي مجموعة المفردات التي تقابل القارئ قبل أن يبدأ في قراءة النص أو المتن مثل العنوان والغلاف والاهداء وأحيانا مقتطفات من أقوال مشاهير أو عبارة يكتبها المؤلف كمفتتح. إشارات تهيئ القارئ لما هو مقدم عليه والعنوان هو غداء في بيت الطباخة عنوان بسيط لا يشي بالحرب ولا علاقة له بالموضوع لكنه في ذات الوقت وثيق الصلة به كما سنرى داخل النص.

 

الجملة الأولى: في المكان رائحة بشرية

وكأنه إقرار بوجودها قبل أن تندثر كأن الحرب القادمة التي سنراها بعد قليل كفيلة باجتثاث كل ما هو بشري ثم تأتي أول كلمة في النص بعد العنوان الأول الحرب

في روايته جمع بين شخصين بالصدفة المجردة أحدهما رمادي والآخر بني على طرفي الصراع (لاحظ حيادية اللونين) لا أثر للاسم ولا الهوية والمكان ضيق ومحدد يمشيان معًا على الرغم من أنهما بدآ كأعداء لكنهما تقاسما كل شيء الزمن والمكان والطعام وحلما بتقاسم المستقبل أيضا. وسط حالة حرب تظهر كشخصية محورية تريد الحب أيضًا. وتحلم كطفلة صغيرة بالسلام. يقضيان معا خمسة أيام في الخندق فهل كانت هذه الأيام كافية لتحويل الأعداء الى أصدقاء؟

في خمسة مشاهد لخمسة أيام هي: اليوم الأول: الطباخ والمدرس يتقابلان

يفزع القارئ في المفتتح بكلمة واحدة جامعة مانعة حرب وجندي يجري بسلاح تحت الشمس حتى يقع في خندق ضيق. في هذا الفصل يقدم الكاتب أبطاله الطباخ والمدرس والحرب بلا اسم بلا صفة بلا وظيفة بلا عنوان. لماذا المدرس ولماذا الطباخ يهدينا النص الإجابة ببساطة. الأول لرصد التاريخ والثاني للمتعة الإنسانية الضرورية لاستمرار الحياة.

اليوم الثاني: المدرس والطباخ يتفرجان على الراديو والتليفزيون

في هذا الفصل يكشف لنا بعضا من أوراقه يفتح بالخيال بابا لدخول الماضي كماض مستمر؛ مشاهد كانت قد تحدث لو لم تكن الحرب، لهذا الامتداد واقع تاريخي للحرب منذ فجر التاريخ من ناحية وللإنسانية من ناحية ثانية. تنهمر الصور من البروجكتور ومن خيال كل منهما أمامهما وهما محاصرين بالحرب والجرح والوجع وتوقع الموت كل من الآخر هذا الجسر الذي يقوى كلما مر الوقت ويبني ثقة تكاد تبلغ اليقين ( حين ينام كل منهما ويحرسه الآخر) يكسر الزمن باستدعاء مشاهد تستمر في الحدوث رغم بعد المكان والزمان مشاهد مع الابنة والزوجة ومشاهد مع الأم الطباخة؛ ويكسر الزمن بالنمو المفرط للذرة التي خلقت لنفسها مسارا يسارع الوقت ليعطي أملا للجنديين اللذين تقاسما الطعام وهو ينفد منهما.

وتستمر الأيام بإيقاع الزمن المحدد بالساعة والدقيقة

الخامسة :و10 دقائق

في ذروة الحدث الوجع ومع تصاعد دخان الحرب واقترابها أكثر منهما يفتح الباب أمام مشهدين للحياة؛ أحدهما للعب الكرة بينهما وهما صبيين في نفس العمر ؛ والثاني بالدعوة إلى غداء في بيت الطباخة: ما رأيكم؟. تدعوكم أمى، بطلة حياتى، وأحْسَن طبَّاخة فى العالَم، تدعوكم كلَّكم إلى غداء تَطبخه بنفسها.

الطعام كفعل حميمي يصنع بحب من شخص متميز يستطيع بالحب والحنان أن يكفي العالم كله كأنها مسيح يطعم شعبه بخمس سمكات.

من مميزات هذا النص ايقاعه؛ حدده الكاتب بالساعة والدقيقة وأعطى للقارئ الفرصة لتخيل العالم لحظة حدوث الحدث لم يقدم لنا وصفا إلا وصف الخندق وحده؛ المكان الضاغط بضيقه وتعرجاته كأنما كان يمهد لنا مشهد النهاية الذي كشفه المطر فالحرب تخلف وراءها أكواما من الجثث فوق بعضها تبقى كما هي لا تتغير ملامحها بالزمن لتبقى شاهدًا على فداحة الحرب وقتل زهرة الشباب. النهاية من أفضل ما كتب في الرواية لسلاسة واندماج وجودها في هذا العالم؛ الجثث شاهد على كل حرب جديدة وكل دمار لن تفنى ولن تندثر ستبقى عارا أبديا على البشرية.

كاتب رومانسي يبني العالم كما يتخيله يجرده بأسئلته من الشر ليستعيد حيويته وانسانيته والخير الذي جبل عليه ماذا لو تحكم عالم المؤلف هنا وفي عمله اللاحق (حدث في شارعي المفضل) يتساءل ماذا لو اختفت الأرض ويبني روايته على قطعة أرض وحيدة متبقية عليها فتاة فقدت الأخ الوحيد بعد أن وهبها قلبه لتعيش عليه.

معرفته بطبقات الأرض الجيولوجية كباحث جيولوجي تميزه بمعرفة باطنها وأسرارها ومكامن تغييراتها وأحاسيسها وتعطيه ربما الحق في إعادة بناء طبقات أخرى حية تحافظ عليها من الدمار الذي يفعله بها البشر. أعجبتني لغة الرواية خاصة الحوار الذي اعتمدت عليه كتقنية غالبة. وحتمية لأن الراوي أو الكاتب اختار أن يكون هو الوسيلة الوحيدة للتواصل بدلا من البندقية أو الحياة بدلا من الموت. ومن خلاله تقلبت الأفكار الفلسفية التي تنتصر للحياة وليس الخراب.

-----------------------

بقلم: هالة البدري