في زمنٍ تهاوت فيه المعاني الكبرى تحت ركام الواقع، وبدت اللغة في عجزها أمام الدم، يجيء كتاب «طوفان الأقصى «للكاتبة سهام ذهني كوثيقة وجدانية نادرة، تنتمي إلى جنسٍ خاص من الكتابة لا يُصنَّف بين الأدب والسياسة أو بين التوثيق والإيمان، بل يقف في النقطة التي يتحد فيها الضمير بالوعي، والذاكرة بالفعل، والتاريخ بالحاضر.
تكتب سهام ذهني لتثبت أن الكتابة ليست ترفًا بل شهادة، وأن القلم ـ حين يصدق ـ يمكن أن يكون سلاحًا موازٍ للبندقية.
كتبت «طوفان الأقصى» كما لو كانت تكتب من قلب الخندق، لا من وراء مكتب، بضميرٍ حيٍّ يجاور الخطر، وبقلبٍ يلتقط أنفاس المقاومين وأوجاع الأمهات ونبض الأطفال في خيام النزوح.
لم تكتب سهام «كتابًا عن غزة»، بل كتبت عن معنى الإنسان حين يُمتحن في وجوده؛ عن إصرارٍ يرفض الانكسار، وعن أمةٍ تستيقظ من تحت الركام لتقول: ما زلنا هنا، وما زالت لنا كلمة وراية.
جمعت الكاتبة بين الوجدان الإيماني والذاكرة التاريخية والوعي الإنساني، لم تسقط في خطاب العاطفة المجرّد، ولا في تنظيرٍ باردٍ منفصلٍ عن الواقع، بل تمسك بخيطٍ دقيقٍ بين القرآن والحدث، بين غزوة الخندق وأنفاق غزة، لتقول لنا إن التاريخ لا يعود، لكنه يستعاد في صورٍ جديدة من الصبر والإيمان والمقاومة.
يُبنى «طوفان الأقصى» على فكرةٍ محورية شديدة البساطة والعُمق معًا: أن التاريخ يعيد منطقه حين تتكرر روح الإيمان، من هنا تنطلق الكاتبة من أنفاق غزة لتصل إلى خندق المدينة المنورة، ومن المقاومة الفلسطينية إلى المسلمين الأوائل في غزوة الأحزاب، حيث لم يكن الصراع مجرّد معركةٍ بالسيوف أو الصواريخ، بل مواجهةً بين إرادتين: إرادة الاستئصال وإرادة البقاء.
تشتغل سهام ذهني على خطٍّ مزدوج:
الخط الأول روحي ـ تاريخي، يستحضر الآيات القرآنية والتجارب النبوية كمرايا للحاضر، لتؤكد أن النصر وعدٌ مشروط بالأخذ بالأسباب والثبات على الحق.
الخط الثاني واقعي ـ توثيقي، يرصد تفاصيل الحياة اليومية في غزة: الحاضنة الشعبية، الأمهات اللواتي يودّعن أبناءهن بالزغاريد، المقاتلين الذين يخرجون من الأنفاق على أجسادهم "ترينجات" بسيطة وأقدامهم حافية، والمهندسين الذين يحوّلون بقايا الركام إلى أدوات للحياة.
في الجمع بين هذين الخطين، يخرج النص عن التصنيف التقليدي، فلا هو بحث ديني، ولا هو مجرد تسجيل صحفي، بل وثيقة وجدانية تسعى إلى ترميم الوعي العربي المنكسر عبر استعادة روح الفداء الأولى التي صنعت مجد الأمة في بداياتها.
يُلفت النظر أن سهام لا تقدم غزة كقضية سياسية، بل كـ نموذجٍ أخلاقي للبشرية كلها، فهي ترى في «الطوفان» حدثًا كونيًا لا فلسطينيًا فقط، إذ أعاد ترتيب الضمير الإنساني وفضح سردية القوة الإسرائيلية. فحين تتحدث عن الأطفال الذين يصنعون المراوح من بقايا الحديد، أو عن الفتاة التي تزرع نباتًا في علبة صفيح، فإنها لا تصف مشهدًا فحسب، بل تعلن ميلاد معنى جديد للحياة من قلب الموت.
الكتاب كذلك يعيد تعريف البطولة: ليست البطولة في قتل العدو فحسب، بل في القدرة على التحمّل،ولهذا فإن فصوله عن النساء والأمهات تحمل نبرة عميقة من «الحزن النبيل»، ذلك الحزن الذي لا يستدرّ الشفقة بل يفرض الاحترام.
اللافت أنها لم لا تقع في فخّ المزايدة ولا في غلوّ العاطفة، بل تكتب بعينٍ يقظة إلى المعنى العميق للبطولة: فالبطولة ليست في الانتقام، بل في الثبات دون أن يفسد القلب، والإصرار دون أن يتلوث الضمير.
ولهذا يتكرّر في الكتاب مشهد الأم الفلسطينية التي تودّع ابنها بالحمد، لا بالبكاء، والطفل الذي يبتسم بين الخيام لأن في قلبه يقينًا أن الله لن يخذل شعبًا ما زال يقول «الله أكبر» حتى في العدم.
اللغة التي كتبت بها سهام ذهني كتابها عن الطوفان جاءت مزيجًا من البلاغة التراثية والحميمية الإنسانية، بين كل فقرة وأخرى، يطلّ القرآن كمصدر طاقة، والوجدان كوقودٍ لاستمرار السرد. وكأن الكاتبة تحفر نصها كما يُحفَر الخندق: بالإصرار، لا بالأدوات.
وفي زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات الباهتة التي تتحدث عن فلسطين من مسافةٍ آمنة، تضع سهام ذهني القارئ في قلب النار وتهمس له:«هذه ليست حرب غزة وحدها، إنها معركة الإنسان في امتحان الإيمان والكرامة».
في «طوفان الأقصى» تبلغ سهام ذهني ذروة هذا المنحى؛ إذ تنجح في تحويل المأساة إلى معنى، واليوميّ إلى رمزيّ، والحدث السياسي إلى تجربة إيمانية تُعيد للإنسان العربي ثقته بنفسه وبقدرته على النهوض من بين الركام.
وفي نهاية المطاف، يبقى هذا الكتاب وثيقةً من وثائق الضمير العربي في زمنٍ بدا فيه الضمير نفسه على المحك.
كتابٌ يذكّرنا ـ كما كان يذكّرنا التاريخ حين يشتد الليل ـ أن أمةً تكتب بالإيمان لا تُهزم، حتى لو سقطت جدرانها.
«طوفان الأقصى» ليس فقط تأريخًا لحدثٍ فلسطيني، بل تأمل في مصير الأمة كلها؛ كيف يمكنها أن تستعيد معناها حين تستعيد إيمانها بالفعل لا بالشعار، وكيف يمكن للكلمة أن تصير فعلًا مقاومًا حين تكتبها امرأة مؤمنة بأن الحرف إذا صَدَق، صار حجرًا في جدار القدس.
«طوفان الأقصى» ليس مجرد كتاب، بل موقفٌ مكتوب.إنه شهادة كاتبة وامرأة عربية قررت أن تقاوم بالنص، كما يقاوم أهلها بالدم. كتبته سهام ذهني بقلبٍ يرى في الكلمة نافذةً لا تُفتح على المجاز، بل على غضبٍ ساطعٍ يُعيد للتاريخ نبضه.
-----------------------------------
بقلم: محمد حماد