12 - 10 - 2025

مجمع نيقية مات.. والكنائس ما زالت تتصارع على جثمانه

مجمع نيقية مات.. والكنائس ما زالت تتصارع على جثمانه

لم يكن مجمع نيقية الأول سنة 325م اجتماعا لاهوتيا فحسب.. بل لحظة فاصلة في تاريخ الإنسانية الروحية.. للمرة الأولى اجتمع العالم المسيحي تحت رعاية إمبراطور وثني آمن بالسلام أكثر من الإيمان ليحسم سؤالا هز القرون.. من هو المسيح؟ إله كامل؟ إنسان كامل؟ أم كليهما معا؟

من هنا خرج قانون الإيمان النيقاوي.. الوثيقة التي أرادت توحيد الكنيسة على عقيدة واحدة.. لكن بعد سبعة عشر قرنا، لم يتبق من ذلك الإيمان الموحد سوى رماده.. يعاد إشعاله كل فترة في احتفالات فخمة أو بيانات لاهوتية بلا روح..

- من وحدة الإيمان إلى إرث الانقسام

كان هدف المجمع الأول بسيطا في مظهره، معقدا في جوهره وهو القضاء على بدعة آريوس الذي أنكر ألوهية المسيح.. انتصرت العقيدة النيقاوية بقيادة القديس أثناسيوس تلميذ مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، التي شكلت أحد أعمدة الفكر المسيحي عبر التاريخ..لكن مع مرور القرون.. انقسم الجسد الواحد إلى كنائس تحمل أسماء متباينة.. كاثوليكية و أرثوذكسية و بروتستانتية وشرقية... كلها تقرأ قانون الإيمان ذاته لكنها تفسره من زوايا متناقضة كل منها تزعم أنها الوريثة الشرعية للمجمع..في هذا المشهد المتناحر تبدو الكنيسة القبطية كأنها الوريث الذي يعيش على أطلال البطولةفهي تحتفل بأثناسيوس بصفته حامي الإيمان.. بينما تواجه انقسامات داخلية بين محافظين يرون في أي حوار مع الغرب خيانة، ومجددين يحلمون بكنيسة أكثر انفتاحا.. وفي الخلفية جمهور من المؤمنين يكتفون بترديد قانون الإيمان في القداس دون أن يدركوا أن ما بين كلماته جراحا لم تلتئم منذ قرون..

- نيقية الجديدة.. دبلوماسية بلا روح

في السنوات الأخيرة، حاولت الكنائس الكبرى إعادة فتح الملف المسكوني.. و عقدت لقاءات في جنيف  وروما والقاهرة تحت شعارات الوحدة في التنوع واستعادة روح نيقية..لكن أحد الأساتذة في الكلية الإكليريكية بالإسكندرية يرى أن هذه اللقاءات تبدو كحوار بين جدران.. وعلق:  كل كنيسة تدخل الاجتماع وهي متأكدة أن الحقيقة عندها وحدها.. الكل يتكلم عن المحبة ولكن المحبة نفسها ضحية لغرور المؤسسة.. الوحدة صارت مصطلحا بروتوكوليا، لا حلما روحيا..ويضيف أحد الباحثين في التاريخ الكنسي أن مجمع نيقية لم يمت فقط.. بل قتل على مراحل كلما رفعت كنيسة رايتها فوق راية الآخر، وكلما صارت العقيدة أداة سلطة بدل أن تكون وسيلة خلاص..

- الكنيسة القبطية بين الماضي والمستقبل

من موقعها التاريخي كأقدم كنيسة في الشرق، تجد الكنيسة القبطية نفسها محاصرة بين الوفاء للتاريخ والانخراط في الحاضر..في الداخل هناك صراع حول المناهج اللاهوتية والتعليم الكنسي، ومحاولات لتجديد الخطاب العقائدي كي يتوافق مع وعي جيل جديد يشك في كل شيء، بما في ذلك فكرة “الحق المطلق”..وفي الخارج هناك دعوات متكررة للمشاركة في الحوار مع الفاتيكان والكنائس الشرقية الأخرى، لكنها كثيرا ما تصطدم بالذاكرة الطويلة للانشقاقات القديمة وبحساسية الهوية القبطية التي ترى في نفسها كنيسة الشهداء لا الدبلوماسيين... و يقول كاهن قبطي شاب طلب عدم ذكر اسمه: الناس في الكنيسة مشغولة بالخلافات الإدارية أكثر من العقائدية، لكن الجوهر واحد:  نحن نعيش في ظل مجمع مات منذ قرون، ونكرر شعاراته دون أن نفهم كيف نعيده إلى الحياة..

- الوحدة

في الذكرى الـ1700 لمجمع نيقية، تقام مؤتمرات ومقالات وجدالات إلكترونية كثيرة..يتجادل اللاهوتيون حول اللغة والمصطلحات ويتبادل المؤمنون اتهامات بالتحريف أو الانحراف، بينما يبقى السؤال معلقا..هل يمكن للوحدة التي فرضت بقرار إمبراطوري أن تبعث بإرادة روحية حرة؟؟

الإجابة تبدو قاتمة.

في عالم تتسابق فيه الكنائس على النفوذ أكثر من الخلاص.. تحول “مجمع نيقية” إلى رمز لجثة الوحدة، جثة تستدعى وقت الحاجة لتأكيد الشرعية، وتدفن مجددا حين يظهر الخلاف..

لم يعد المجمع يجمع أحدا.. صارت الكنائس ترفعه كشعار وتتنازع إرثه كسلطة، وتعيش في ظل إيمانه الميت..ربما مات نيقية، لكن موته ليس النهاية..فكل محاولة لإحيائه مهما بدت رمزية، تذكرنا بأن الإيمان حين يتحول إلى مؤسسة يفقد روحه...وأن المجامع مهما عظمت، لا تملك أن تبقي ما لم يكتب له أن يعيش..