بعد صدور طبعة ثانية من روايته "غواية ظل"
الكاتب السكندري محمد عطية محمود:
- بدأت بكتابة القصة القصيرة ثم الرواية بحثا عن تكاملية إدراك المعنى
- الحروب قدر الإنسان وهي في الوقت نفسه وقود الإبداع
تتعدد مسارات إبداع الكاتب السكندري محمد عطية محمود، لكنها عادة ما تلتقي عند مسقط رأسه الإسكندرية، تلك المدينة التي لطالما ألهمت مبدعين من مختلف الجنسيات، ويجتهد كاتبنا في التقاط، تفاصيلها، في كتاباته الإبداعية ومنها رواية "دوامات الغياب"، ورواية "بهجة الحضور"، والمجموعات القصصية "على حافة الحلم"، "وخز الأماني"، "في انتظار القادم"،. وصدر للكاتب هذا العام نص سردي بعنوان "الآن أنت وحدك"، والمجموعة القصصية "النورس يعود وحيدا". وله في النقد عدد من الكتب منها "أمواج القصة السكندرية القصيرة"، و"بين الناقد والمبدع"، و"الوقوع في أسر المكان"، و"روايات تعاند الرياح"، و"ملامح روائية"، و"شجرة الوطن.. بلاغة الصحراء". وصدر له في أدب الطفل كتاب "حقيبتي الأجمل" عن دار "صديقاتي" في الشارقة عام 2023. وله قيد النشر روايتان: الأولى "عيون العزلة"، والثانية "رسائل لم تكن قديمة"، ومجموعة قصصية بعنوان "عصفورتان بلَّلهما المطر".
وبمناسبة صدور الطبعة الثانية من روايته "غواية ظل" عن "بيت الحكمة" بالقاهرة كان هذا الحوار معه لـ "المشهد".
*ما هي دوافعك لكتابة "غواية ظل"؟ وماذا تمثل لك في مسيرتك الإبداعية؟
- لا تختلف دوافعي لكتابة هذه الرواية عن دوافعي للكتابة في عمومها، فهي حلقة من حلقات الرواية كرافد من روافد إبداعي/ ممارستي لفنون الكتابة (السرد تحديدا إبداعًا ونقدا)، وهي في الوقت ذاته تأكيد على مشروع كتابة أرى فيه أن المنبع الرئيس الذي تنهل منه كتاباتي أو انفعالاتي على الورق هو منبع واحد، ولكنه يمضي في مسارات قدرية ومتشابكة ومتوالدة على مستوى الحالة الإنسانية. إلَّا أن "غواية ظل" تحديدًا أثبتت بالنسبة لي على الأقل أن رهاني على الكتابة الروائية لم يكن خاسرًا، بعد روايتين سبقتاها ومهدتا لها عضويا على نحو كبير، في ظل احتفاظي بمقوماتي كسارد يتقن القصة القصيرة أولا وبداية وتدشينا لموهبتي في الكتابة، كنمط إبداعي وكأسلوب يعتمد على تقنيات أكثر صعوبة وأكثر مساحات للجرأة ومحاولات التجريب.
غواية الإسكندرية
*ما بين القصة/ الرواية، أين تجد ذاتك؟
-كما قلت، القصة هي الأساس، هي المحرك اللحظي لي ككاتب يقتنص اللحظة واللقطة الإنسانية كي يحملها شجون العالم من حوله ويسقط عليها أنات الإنسان المستوحش في فضاءات اغترابه التي يعيش فيها ربما متقوقعا على نفسه بحس الاختزال والتكثيف الشعوري المقترب من حالة الشاعرية وليس الشعر، وهو ما يقدم القصة على كتاباتي السردية، ولكن أنا أكتب الرواية بالروح القصصية وهي لا تعد إشكالية تحول أو عجز من كاتب القصة حينما يكتب رواية، فالموضوع مختلف بالنسبة لي. القصة هي التي جعلتني أكتب الرواية بالرغم من صعوبة الأمر في البدايات التي يعتبرها البعض تحولا، ولكنها تكاملية إدراك المعنى في صورة أكبر مساحة، وربما اشتباكا إنسانيا، وليس تعقيدًا
*كيف ترى إسكندرية اليوم بعيدًا عن كتابات داريل/ الخراط/ إبراهيم عبد المجيد، حدثني أو حدث القاريء عن ماهية الخارطة الإبداعية في الإسكندرية مدينة الثغر وعاصمة مصر الكوزموبوليتانية؟
-كما قلت من قبل غير مرة: الإسكندرية محرضة على الإبداع؛ بشخصيتها وأجوائها ورموزها، وروحانيتها وعبقها الساري، وروح البحر المتغلغلة في كتاباتي خاصة وكتابات عشاقها الحقيقيين من الكتاب والفنانين، حتى دون ذكرها صراحة، أنت تستطيع أن تلمح مدى تأثير البحر وتأثيرها في إبداعاتهم، ذلك سر من أسرارها، هي عروس تتزين لك حتى في أكثر صورها بشاعة أو إمعانا في جمالية القبح في بعض مواضعها كسلوك بشري أو طبيعة قد تختلف تماما في أزقتها وحواريها. هي منتجة على المستوى الإبداعي والفني الفرديين أكثر مما بها من حركة ثقافية كالتي في المركز، وقياسا على ذلك فأنت ترى أثرها في إبداع الأسماء الرنانة المنتشرة من المحيط إلى الخليج وليس داخليا فقط والأمثلة كثيرة، الإسكندرية ينقصها الكثير كي تحقق مركزية تجعل منها صاحبة حركة ثقافية وفنية، وإدراك الكنوز الإبداعية الموجودة فيها والتي يئدها التجاهل وعدم مقدرة الكثيرين على الوصول إلى مركز الانطلاق.
سلاح الأدب
* في ظل ما يشهده العالم من حروب عبر الهويات والدين والجغرافيا وحتى التاريخ، كيف ترى مستقبل الكتابة أو الفن والفكر والأدب؟
- ما يحدث في العالم من حروب وصراعات وأيديولوجيات لن ينتهي، ولن تتوقف آلة الإبداع أبدا وستتعدد المخارج وطرق التعبير عن الواقع واستشرافه وتجلياته ومصير العلاقات التي لا تصل إلا إلى زوال حتى تأتي علاقات أخرى تعيد إنتاج الحالة وتقدم صورا مكررة من صور الصراع والكر والفر، فضلا عن الصراعات الثقافية والآلة الإعلامية للتحكم فيما يتوجب وجوده وإقصاء ما لا ينتمي إلى تلك التكتلات أو التوجهات، لكن تبقى القيمة التي نبحث عنها، وهي ضرورة عدم التخلي عن سلاح الأدب والفكر ومحاولة التخلص من أدلجته أو تحويله إلى برامج أو استنساخات، ولا نستسلم لها فهي لا تستهدف إلا القضاء على الروح الإنسانية لصالح الآلة الصماء التي ينتفع منها البعض للسيطرة على مقدرات العالم ومحو الإبداع من المخيلة الإنسانية البكر دائما والتي تنتج الحياة بطبيعة الوجود والتقدم لا تحويل المثقف إلى آلة توقف نمو العقل البشري، والإبداعي تحديدا.
إشكالية الجوائز
*هل هناك عتبات ما تتكئ عليها لجان التحكيم فيما يخص ثنائية، منح وحجب الجوائز عن الكتاب؟ وأين أنت من الجوائز في مصر، وهل تعترف بالشللية ودورها في الوسط الثقافي المصري؟
- الجوائز إشكالية كبرى كسياسة تعامل مع المنتج الثقافي/ الكتابة والفن، لها حساباتها التي لا نجهلها جميعا، وإن تظاهرنا بالجهل! والحجب والمنع يدخلان في خانة الإقصاء، في مقابل المنح الذي يصير إشكالية أخرى لها ما لها وعليها ما عليها الكثير، فمن يحكم لمن؟ ومن يعطي من؟ هنا تعبر تلك الثنائية عن مدى التناقض ومدى الاستحقاق من عدمه، وماهية التوجه الفني والأيديولوجي للتغطية على تلك المسألة بالغة الخطورة، فالجوائز سلاح ذو حدين لمن لا يعي ذلك، ولا يملك القدرة على مراقبة مشروعه الإبداعي والفني، أو النقدي. فالكل يسعى، وقد يصادف أن يحصل مبدع على جائزة لم يتوقعها وفرضيات وأسباب فوزه بها لا يعلمها أحد. مفارقة عجيبة ولكنها موجودة في الوقت ذاته الذي تجد فيه من يحصل على جائزة غالبا قد لا يستحق الحصول عليها، ولكن بأي مقاييس؟ ذلك ما يضعنا في المتاهة. سبق أن حصلت على جوائز محلية من الممكن أن تكون ساهمت ولو بقدر ضئيل في وقتها في التحفيز للاستمرار في الكتابة، ولكنها لم تكن سببا مباشرا في ذلك، ليقيني أن ميزان الجوائز لدينا دائما مائل لأسباب متعددة منها الشللية!
الحضور عربيا
* بعد أكثر من عقدين مع الكتابة، كيف ترى حصاد مشوارك الأدبي؟
- أمارس الكتابة الإبداعية والنقدية معا – بانتظام – منذ مطلع الألفية الثالثة التي تغيرت فيها مفاهيم عدة لماهية الثقافة والإبداع والكتابة تحديدا، بعد توقف أكثر من 10 سنوات، حيث بدأت الكتابة في أواخر الثمانينيات، ولكن مع عودتي دأبت على الإعداد لمشروع (كتابة) يخصني، لم ألتفت له جيدا من قبل التوقف، ربما استمد قوته من تبشير أحد شيوخ النقد الأدبي بي كقاص يبشر بموهبة قادمة، فنظرت من حولي واستغربت؛ لأن ما تقدمت به سابقا كان أكثر مواكبة لما وجدت عليه أجواء الكتابة والإبداع من حولي، فسارعت إلى إنتاج المزيد من القصص والمجموعات، ومن ثم انخرطت في الواقع الثقافي، حتى دخلت في الرواية ثم النقد الأدبي، ومنه انطلقت خارج محيطي المحلي لتنشر نصوصي ومقالاتي في أنحاء الوطن العربي، وتحقق لي خارج الوطن أكثر مما حقق لي شهرة مقترنة بأعمالي، ثم مرحلة المشاركة في المؤتمرات والملتقيات العربية والدولية، ما أسهم في صناعة اسمي. أعتقد أنه موجود على خارطة الثقافة المصرية والعربية من خلال أيضا صدور العديد من كتبي الإبداعية والنقدية خارج مصر.
بصمة خاصة
* كيف ترى وضع النقد الأدبي؛ انطلاقا من التفاعل مع أعمالك الإبداعية؟
- طموح كل كاتب هو تسليط الضوء على منجزه الإبداعي أولا حتى ولو كان له منجز نقدي يسهم في تقديم رؤى الآخرين وسبر غورها والاحتفاء بها، وأعتقد أني مقتنع أو متشبع بفكرة أن العبرة فيما يكتب عني بوعي قادر على النفاذ إلى أعمالي الإبداعية، ولو تخلى العديدون عن محاولة مقاربتها بدعوى تمسكهم بالقوالب أو الأنماط التي أرى أنها لا تصنع فنا ولا تواكب فنا مغايرا متمردا على السائد الذي ربما يكون الإقبال عليه من باب الاستسهال أو البخل ببذل المجهود في التلقي، ومحاولة اكتشاف عوالم جديدة ومغايرة، فأنا أكتب وأجهد نفسي في إلباس الفكرة ثوبها ومقومات وجودها من خلال إطار الفن، وأستغرق فيها وقتا وجهدا من روحي وأعصابي، وتأتي كناقد أو متلق أو قارئ لتبدي رأيك فيها في عجالة فتستحسنها او ترفضها. لكن قناعتي بذلك أهدتني أقلاما نقدية واعية آلت على نفسها الإبحار في عالمي فأنصفت، وليس من ضرورة الإنصاف أن يكال لي المديح، لكن ما يهمني هو محاولة استقراء أعمالي بما يناسبها ويناسب جهدي وإبداعي فيها.
* من من كتاب مصر والعالم، كان له الأثر المباشر في احترافك للكتابة؟ وهل أنت مقتنع بأن هناك مثلا أعلى كان له السطوة لدفعك إلى هذا المجال؟
-كل من قرأت لهم أسهموا في تشكيل وعي مختلف وذائقة تراكمت، وأهدتني روحا أعتقد أنها تسري في أعمالي وربما أعطتني بصمة خاصة قد يدركها من يقرأ لي بحب أو بإنصاف أو بمحاولة التعرف على عالم قد يكون مختلفا، لأني لا ألتفت للوراء حينما أكتب، لكني أؤكد لك أني أجتهد في تتبع مسارات الجمال – دون مبالغة – لدى كل من له مغامرة مع الكتابة ومع الإبداع ومع النقد أيضا، والأمثلة كثيرة محليا وعربيا وعالميا، لأني لا أريد أن أكون استنساخا لأحد.
الخلاص بالكتابة
هل ينتهي حلم الكاتب بالخلاص، بعد الانتهاء من كتابة نصه، أم أن هناك معاني أخرى للخلاص، وجدوى مشوار السرد؟
- حلم الخلاص بالكتابة لن يموت، طالما كان محركا إبداعيا إيجابيا له سماته وقواعد انطلاقه، مع الدخول في إطار وعي الكاتب بمدى مصداقيته، وليس مطاردة الوهم أو محاولة الإبقاء عليه من خلال الكتابة؛ لأن الكتابة في صميمها عملية روحانية كيميائية في الوقت ذاته؛ فالكتابة من أجل الخلاص ليست إسقاطا مباشرا وعشوائيا، ولا خبطا على أبواب تنتهي أهميتها بعد الانتهاء من عملية التفريغ النفسي أو الطبطبة النفسية التي لا تجيء في صورة إبداع له مقوماته وأدواته وتوجهاته نحو الإنسان بصفة عامة، فالوجود طالما هو موجود، هو حي، وبالتالي فإن جدوى الكتابة حاضرة حتى ولو كانت فقط في اجتراح معرفيتها.
* أخيرا، من من الاسماء والأعمال، التي يحرص الكاتب والناقد والقاص الروائي محمد عطية محمود على القراءة لها، سواء في الاجيال السابقة أو الآنية؟
- أقرأ للجميع دون تحديد، ويجذبني النص المبتكر والمقال المغاير لجميع الأسماء دون تحديد، وأجيد الإنصات إلى شيوخي في الأدب، وأصدقائي المبدعين من كل مكان، وعندما يجذبني نص سواء كان قديما أو حديثا أكتب عنه من مداد إعجاب وعرفان، لأن العلاقة بالأدب والكتابة ليست أحادية ولا أنظر لها من زاوية ضيقة إلا حينما أريد أن أقتنص كنزا ثمينا يستحق القراءة بل والكتابة عنه.
------------------------
حوار - حسين عبد الرحيم