14 - 10 - 2025

"لومك ع القمر"

عُرفَ عن الشاعر أبو نواس كثرة شربه الخمر ومجونه، فكثرت حول سيرته ألسنة اللائمين، واشتكاه خصومه إلى الخليفة المأمون، فاستدعاه وسأله، فلم يُنكر أبو نواس شيئًا مما نسب إليه وظل صامتًا حتى إذا ما انتهى الخليفة من كلامه، أنشده قائلاً،

(دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ

وداوني بالتي كانت هي الداءُ)

إلى آخر أبيات القصيدة، فما أن سمع الخليفة الأبيات حتى راح يناقشه في فلسفتها ومعانيها ودلالاتها، وهو ما توقعه أبو نواس، الذي يعرف ولع المأمون بالفلسفة وشؤونها تمام المعرفة، بمعنى آخر، أنه نصب شَرَكًا للخليفة ليصرفه عن معاقبته على شرب الخمر، وقد كان.. فقد جرى الحديث بينهما سجالاً، خلع خلاله كل منهما عمامته، بمعنى أن الخليفة كان يُبدي الرأي فيقبله أبو نواس أو يرفضه، دون النظر إلى سلطان قائله، وفي المقابل أيضًا لم يُثر النقاش في نفس المأمون حساسيةً ضد شاعر من رعاياه.

عُرف عن المأمون (786-833م) شغفه بالعلم والأدب والفلسفة وبحضارات الأمم الأخرى، من اليونانية، والفارسية، والصينية، والهندية، فأسس بيت الحكمة في بغداد لغرض ترجمة نتاج تلك الحضارات، فازدهرت حركة الترجمة في عصره أيما ازدهار وانعكست على دولة الخلافة خلال العقدين اللذين حكم فيهما.

فالمتأمل في الأبيات، يُدهش بفعل الأمر (دع) في مُفتتح القصيدة، ثم وقبل أن يتمالك القارئ نفسه، يعاجله أبو نواس بشطر آخر (وداوني بالتي كانت هي الداءُ)، يوجه فيه النصح إلى الخليفة!

والدليل على أن صدر الخليفة لم يضق بذلك أنه ابتسم في نهاية المجلس وصرف أبا نواس بعد أن أجزل له العطاء، بعد ما وجد في شعره من الحكمة ما خلده ليُستشهد به حتى اليوم، سواء في صرف النظر عن المبالغة في اللوم أو في النُصح، ولم لا وكلمات اللوم جمرات تُشعل النفوس قبل القلوب..

ولعل أبا نواس أدرك أن أخطر ما في اللوم هو ما يوقظه في النفس من رغبة في التبرير أو العناد، وليس التوبة والاعتذار. فاللوم حين يتقدّم على الفهم، يصبح سلاحًا في يد العاطفة، لا أداة في يد العقل.

وإذا كان اللوم اللطيف في مجلس الخليفة قد أطفأ نار العقوبة، فإن اللوم في مضارب العرب أشعل نار الحرب. فحرب البسوس كان يمكن إخمادها لولا نار الفتنة التي أشعلتها البسوس بكلماتها حين قُتلت ناقتها بيد كُليب، فلامت جساسًا ابن اختها، لومًا ثقيلاً، جاء فيه أن إهانتها من إهانته، وكرامتها من كرامته، فقام من مجلسه نارًا موقدة، وقصد كُليبًا –وكان بينهما حساسية شخصية شديدة - فدار بينهما حديث قصير، انتهى بمقتل كُليب، لتشتعل حرب أكلت الأخضر واليابس لأربعة عقود.

وإذا كانت ناقة أشعلت حربًا لنحو أربعين عامًا، فإن دلوًا خشبيًا أشعل الحرب بين مدينتي "مودينا وبولونيا" الإيطاليتين عام 1325م، لمدة اثنتي عشرة سنة، عُرفت باسم "حرب الدلو الخشبي"، حتى وإن عزا البعض الأمر إلى ذلك الصراع القديم الطويل بين فصيلين متعارضين.

ربما تتفهم استمرار الصراع لأسباب لها وزنها وقيمتها، لكن أن يُعاود الصراع اشتعاله لأسبابٍ، أقل ما توصف به أنها تافهة، بل ويخجل الإنسان من ذكرها، فهذا ما لا يفسره سوى أن نار الحقد تُعمي القلوب وتأكل القلب قبل أن تأكل ما حولها..

فإن لم يكن منه بدٌ، فأحسن وقعه.. إن كلمة لومٍ غير محسوبة قد تهدم ما بُني في سنوات..

وهكذا، من مجلس خليفة إلى صحراء جاهلية إلى مدينة أوروبية، ظلّ اللومُ هو الشرارة الأولى في كثير من المآسي، لأنه حين يتجاوز الحكمة يتحوّل من صوت ضمير إلى نار فتنة.

ليست تلك حكايات نجلبها من الماضي البعيد فقط، فكم من حروب دِلاءٍ في عصرنا الحديث تَعُجّ بها فضاءاتُ السياسة، ومكاتبُ العمل، وردهاتُ المنازل..  

وقديمًا قال الحكماء، "العتاب على قدر المحبة، فإذا تجاوزها صار عقوبة"، ولتفعل عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة فعل فيروز؛ حين عاتبها حبيبها.. "لا تعتب عليَّ أخرني القمر.. لومك مش عليَّا.. لومك ع القمر!".

------------------------------

بقلم: محمد مصطفى الخياط

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب