اثنان وخمسون عاما مضتْ كسحابة صيف على معركة العزة والكرامة، معركة الثأرِ للوطنية والشرف، والذود عن الأرض، وتخليصها من يدٍ آثمة لمُعتد غشوم، اعتمد في هيمنته وقمعه على أسباب مادية بحتة، ونسي إرادةَ المصريين الحرّة، التي ربما تنكسر أحيانا، ولكنها أبدا لا تموت !
من تلك الأسباب المادية، التي اعتمد عليها العدو الصهيوني، خطُّ بارليف الحصين أقوى خط دفاعى فى التاريخ الحديث ساعتئذ، والذي يبدأ من قناة السويس حتى عمق 12 كيلو مترا فى شبه جزيرة سيناء .
وتكمنُ قوة ذلك الخط في أنّه يتكون من 3 خطوط دفاعية، جعلت اختراقه ضربا من الخيال، وأمنية بعيدة المنال .
الخط الأول منها بطول الضفة الشرقية لقناة السويس، يليه الخط الثانى بعرض يتراوح بين 3 : 5 كيلو مترات، ويتكون من تجهيزات هندسية، ومرابض للدبابات والمدفعية، بعدهما يأتي الخطُّ الثالث بعرض يتراوح بين 10 : 12 كيلو مترا، ويشتمل على مُدرعات، ووحدات مدفعية ميكانيكية .
هذه الخطوط الدفاعية المُمتدة لنحو 170 كيلو مترا بطول القناة، رسّختْ فى يقين ووجدان عدو صهيونى بغيض، أصابه الصلفُ والغرور، أنّ مصر لن يُمكنها تدميره حتى يلج الجملُ فى سَمِّ الخياط !
ولم تكن هذه فكرة إسرائيل وحدها، بل اعتقد العالمُ أجمع أنّ تدمير هذا الخط، لن يتحقق إلا باستخدام القنبلة الذرية، التى لا تمتلكها مصر، ومن ثم، فسيبقى غصة في حلق جنودنا البواسل، وعقبة كئودا يصعب اجتيازها، ويُحالُ تخطيها !
لم يَفُتّ ذلك فى عضد خير أجناد الأرض، ولم يُصب مُتخذي القرار بالخوار والارتباك، بل وصلَ الرئيس الراحل محمد أنور السادات - رحمه الله - الليل بالنهار، يُجهّزُ لتلك المعركة؛ لينفض عن المصريين آثار النكسة وعار الهزيمة .
وبعد تخطيطٍ وتدريب، واستعانة بأكفأ القادة، وإلمام بالثغرات فى صفوف العدو، جاء قرارُ الحرب لردِّ الكرامة، واستعادة أرضٍ استبيحت بغير حق .
كانت حربُ أكتوبر، واستبسالُ جنود مصر، وتدميرُ خط بارليف، واقتحام قناة السويس سيمفونية رائعة، ومنهجا يُدرّس في تاريخ العسكرية، وهو ما أصاب قادة إسرائيل بالذهول، وجعل وزير الدفاع الإسرائيلي(موشى ديان)، يقول وهو يعضُّ أنامله من الغيظ: إنّ هذا الخط كان كقطعة الجُبن الهشّة.
واعتبرت صحيفة "اليونايتد برس" أن سقوط خط بارليف أسوأ نكسة أصيبت بها العسكرية الإسرائيلية .
وها هي ذكرى النصر الثانية والخمسون، تهل فتملأنا فخرا وعزة وتيها بمعركة تُدرّس في فنون الحرب والقتال والتخطيط، أوقد فتيلها إيمانٌ راسخٌ لدى القائد والجنود بحقّ مصر في الاستقلال، وهيمنتها علي كامل أرضها .
وبعد .. لو سلمنا بأحقيتنا فى الفخر بهذا النصر، الذى جاء نتيجة جهد وعرق مع صبر وكفاح، فإنه ليس من حقنا أن نكتفى بمجرد التغني بما فعله الآباء ونبقى (قفزة فى المكان)، أو (محلّك سر) دون خطوة للأمام .
إذ إنّ الفخر بصنيع الآباء والأجداد لا يبني أمما، ولا يشيد حضارات، بل يصنع ذلك العمل والإرادة من قبل المواطنين قبل المسئولين .
هذا إلى جانب ضرورة أن نأخذ العبرة من شعوب، كانت أسوأ منا حالا، لكنها خطت في طريق التقدم خطوات واسعة .
إنَّ دولة كالهند ـ ياسادة ـ والتى كان يُضرب بسكانها المثلُ فى عدم الفهم، فيقول المرءُ لمن لا يستوعب كلامه: ( هل أنت هندى؟ ) .. أقول صارت هذه الدولة أولى دول العالم فى البرمجيات والكمبيوتر، حتى أصبح معظم مُديري الشركات بالعالم من أصل هندي، وصارت ماليزيا من نمور آسيا الصناعية، وخطت دولُ الخليج خطواتٍ واسعة فى طريق التقدم، وأضحت الصين وكوريا من أهمّ الدول الصناعية، ناهيك عن اليابان التى سبقتنا بمئات السنين، رغم انطلاقها من الفقر والجدب والخراب بعد قُنبلتي هيروشيما وناجازاكى .
وأخيرا أؤكد أنّ نصر أكتوبر ليس حفلا يُقام، أو أغنية تُغنى، أو فيلما يُعرَض، أو (أوبريت) يُقدم، أو خطبة تُلقى، بل هو دعوة للعمل والبناء، هو تجسيدٌ للإرادة الحرّة التي تصنع المعجزات .
--------------------------------
بقلم: صبري الموجي
ـ مدير تحرير الأهرام