08 - 10 - 2025

السابع من أكتوبر: تعدد الرؤى ووحدة الوجع العربي

السابع من أكتوبر: تعدد الرؤى ووحدة الوجع العربي

قرأت اليوم ما نُشر عن السابع من أكتوبر، وتوقفت طويلًا أمام تنوع الأصوات التي حاولت أن تفسّر الحدث أو تُؤرّخه أو تُعيد قراءته بعد عامين على وقوعه. لم تكن تلك المقالات مجرد رؤى متفرقة، بل بدت كخرائط متداخلة تسعى لفهم لحظة لا تزال مفتوحة على الاحتمال، عصية على الإغلاق، ومفتوحة على التأويل.

بدا واضحًا أن السابع من أكتوبر لم يعد حدثًا عسكريًا أو سياسيًا فحسب، بل صار مرآة تعكس صورة العالم العربي كله: انقسامه، حيرته، وقلقه من القادم المجهول. 

ومن هنا يبرز السؤال الأكبر: ما الذي يعنيه هذا التعدد في الرؤى؟ وما الذي تكشفه هذه الكتابات عن حال الأمة وهي تقف بين ذاكرة الدم وغياب البوصلة؟

كانت بعض القراءات مشغولة بالسياق التاريخي الذي قاد إلى الانفجار، كأنها تستدعي من تحت الركام ذاكرة طويلة من الإذلال والتجاهل والحصار، بينما ذهبت أخرى إلى تحليل الحدث بما هو نتاج سياسات عمياء تراكمت فوق جراح قديمة. 

بعضها ركّز على مأساة الإنسان الفلسطيني في ظل حرب الإبادة، وبعضها الآخر على عجز السياسة العربية عن مجاراة دينامية المقاومة أو حتى فهم منطقها. وبين من رأى في الحدث شرارة خلاص، ومن اعتبره مقامرة في توقيت ملتبس، ليتكشف المشهد عن مفارقة عربية مألوفة: نختلف في التفسير وقراءة الحدث، لكننا نتوحد في وجع والألم.

اللافت أن الجميع، رغم تباين المواقع والرؤى، كان يدور حول سؤال واحد لم يُصغ بوضوح لكنه كان حاضرًا بين السطور: أين كانت الأمة حين وقعت الواقعة؟ ولماذا بدت المنطقة وكأنها تشاهد ما يجري على شاشة لا تخصها؟ في كل سطر تقريبًا إحساس عميق بالغياب: غياب القرار، وغياب الرؤية، وغياب المشروع الذي يمكن أن يمنح للغضب معنى. كأن السابع من أكتوبر لم يفضح إسرائيل وحدها، بل عرّى هشاشة النظام العربي نفسه، ذلك النظام الذي ظلّ لعقود يتهرب من الأسئلة المصيرية، متكئًا على ذرائع الأمن، والسياسات الواقعية، وانتظار ما لا يأتي.

كشفت هذه الحرب، بكل دمويتها وما خلفته من دماء وخراب، أن العرب ما زالوا واقفين أمام المرآة ذاتها منذ نصف قرن؛ يبدّلون الخطاب دون أن يبدّلوا الموقف، يرفعون الشعارات نفسها بينما تتبدّل الجغرافيا من تحت أقدامهم. 

كان المشهد الفلسطيني ـ كما بدا في هذه المقالات ـ استعارة مكثفة لعجزنا الجمعي: مقاومة تقاتل وحدها، وأنظمة تكتفي بالتعليق، ونخب تتجادل في التوصيف أكثر مما تتأمل في الطريق. 

ومع ذلك، فإن هذا الجدل، بكل ما فيه من حدة وتناقض، ليس عديم القيمة؛ فهو على الأقل يشير إلى أن الوعي لم يمت، وأن المنطقة، رغم تعبها، ما زالت قادرة على التفكير، ولو بصوت متقطع.

وربما يحمل هذا التعدد، الذي يبدو للوهلة الأولى تباينًا، ملامح وعي جديد يتشكل تحت رماد الألم، وكأن الأمة، بعد طول التيه، بدأت تصغي لصوتها من جديد، تستعيد قدرتها على الإنصات لما تبقى من نبضها. فليست المشكلة في اختلاف الرؤى، بل في أن يكون هناك من يرى أصلًا، وأن تتعدد زوايا النظر حول حدث لم يُغلق بعد. 

هذه الكتابات، مهما اختلفت منطلقاتها، تشير إلى شيء واحد: أن العالم العربي يعيش على فوهة تحوّل لم يكتمل، وأن طوفان الأقصى لم يكن خاتمة فصل، بل افتتاحية لزمن جديد، تتصارع فيه الإرادات كما تتصارع المعاني.

ومن لم يدرك حتى الآن أن ما جرى في السابع من أكتوبر لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل لحظة انكشاف وجودي لأزمة المنطقة برمتها، فلن يفهم ما يُكتب اليوم، ولن يكون له نصيب في كتابة ما سيُكتب غدًا.

وربما كان السؤال الأصدق، الذي لم يُطرح بما يكفي، هو: ماذا لو كان رد الفعل العربي مختلفًا؟ ماذا لو لم يكن متخاذلًا أو متواطئًا أو مكتفيًا بالمشاهدة، بل تحرك برؤية جامعة، تدرك أن ما جرى لم يكن صراعًا فلسطينيًا مع إسرائيل فحسب، بل اختبارًا لضمير الأمة كلها؟ 

لعل التاريخ كان سيكتب فصله التالي بمداد آخر، لا بدماء الضحايا وحدها. غير أن ما غاب لم يكن القرار فحسب، بل الوعي باللحظة، والقدرة على تحويل الغضب إلى مشروع، والحداد إلى فعل. وفي المسافة بين هذا الغياب وتلك اللحظة الضائعة، تتجلى مأساة العالم العربي: أنه يدرك جيدًا ما لا يريد، لكنه لم يتوافق بعد على ما يريد، ولا على السبيل الذي يقوده إليه.

ولعل ما بقي بعد كل هذا ليس الندم على ما فات، بل الوعي بما يمكن أن يكون. فالتاريخ لا يرحم المترددين، ولا يعفو عن الغائبين حين تُكتب اللحظات الفاصلة. 

هذه الأمة، التي أثبتت مرارًا أنها لا تموت، قادرة إذا شاءت أن تعيد تعريف ذاتها، لا بشعارات الماضي، بل بإرادة الحاضر. والدرس الذي يقدمه السابع من أكتوبر، بعد عامين كاملين، هو أن القوة ليست في السلاح وحده، بل في وضوح الرؤية واتساع الأفق. وأن من يعي موقعه في لحظة التحوّل، سيملك القدرة على تحويلها إلى بداية جديدة، لا إلى مناسبة سنوية تُستعاد بالمرثيات.
---------------------------
بقلم: محمد حماد

مقالات اخرى للكاتب

السابع من أكتوبر: تعدد الرؤى ووحدة الوجع العربي