أعترف أنني لم أدرك يومًا أن الرحيل مهارة، حتى وجدت نفسي أمام أبوابٍ لا تُفتح، وأخرى لم يعد من الكرامة أن أطرقها. في كل مرة هممتُ بالانسحاب كنت أكتشف أن قرار الرحيل ليس مجرد شجاعة لحظية… بل هو مرحلة كاملة من الفطام العاطفي.
الرحيل ليس قرارًا سهلاً، حتى وإن كان القرار الصائب. إنه لا يُنهي فصلًا من فصول الحب فقط، بل هو تجربة إنسانية تتكرر في حالاتٍ متعددة؛ فقد يكون وداع حبيب، أو إنهاء علاقة صداقة دامت طويلًا، وقد يكون ترك عملٍ أمضينا فيه سنوات من العمر، أو مغادرة الوطن للدراسة أو العمل، وقد يكون قرار العودة للوطن مرة أخرى ومغادرة بلد عشنا فيه سنوات طويلة.
وقد عايشتُ بنفسي تجربة أحد الأصدقاء حين انتهى عمله في إحدى الدول الشقيقة التي مكث فيها ما يزيد على أربعين عامًا، لكنه لم يقوَ على اتخاذ قرار الرحيل منها، وظل في تلك البلاد قرابة عام ينفق من مدخراته، وكان يقول لي إنه يخشى العودة بعد سنوات الغربة التي باعدت بينه وبين كل شيء في وطنه. يومها أشفقت عليه، وأدركت أن الرحيل صعب فعلًا.
في اعتقادي أن الرحيل يبقى مؤلمًا لأنه يخترق الهوية والذكريات والروتين؛ فهو يُخاطب أعمق ما فينا: الخوف من الفراغ، والخوف من فقدان الذات.
وعلم النفس يفسّر لماذا يؤلمنا الرحيل بهذه الشدَّة، إذ يخبرنا أن روابطنا مع الآخرين تعمل كشبكات تُنشئ هوية متداخلة، وهو ما يُعرف بـ"نظرية التعلق". هذه الروابط العاطفية ليست ترفًا، بل آليات بقاء نفسية، وفقدانها لا يُخرجنا من روتينٍ عاطفي فحسب، بل يُوقظ آليات حزنٍ وتعاطف وقلق.
ونظرية التعلّق التي أسسها عالم النفس البريطاني جون بولبي وطورت مفاهيمها ماري أينسورث، تؤكد أن العلاقات ليست كماليات، بل جزء من تكوين الهوية. لذلك حين نغادر علاقة أو عملًا أو مدينة، فنحن لا نفقد شخصًا أو مكانًا فقط… بل نفقد جزءًا من أنفسنا.
والرحيل ليس فشلًا بالضرورة، بل هو حدث يعيد رسم الحدود. ومهما اختلفت الأسباب التي أدّت إليه… خيانة، تبلُّد، عدم تقدير، تغيّر في القيم، بحثٌ عن فرصة مهنية، أو مطاردة حلمٍ في بلد آخر… تظل الحقيقة نفسها: نحن نفقد جزءًا من مألوفنا، والمألوف يمنح الإحساس بالاستقرار، وحين ينهار، ينهار معه جزء من الشعور بالذات.
وعندما صرخ نزار قباني في قصيدته الشهيرة رسالة من تحت الماء قائلًا: «إن كنتَ حبيبي، ساعدني كي أرحل عنك»، أرشدنا إلى أن الرحيل فن نحتاج إلى أن نتعلمه، وأن نتقن فن المغادرة بكرامة، وفن إعادة تشكيل أنفسنا، حتى وإن اقتضى الأمر طلب المساعدة لتجاوز الألم المصاحب له.
فالرحيل لا يُمحى بالقرارات القاطعة وحدها، وعلم النفس يفسر أن التعرّض للمشاعر واستيعابها – بدلاً من إنكارها – هو الطريق الأقصر إلى التخفيف من الضغط النفسي في هذه المرحلة. علينا أن نمنح أنفسنا وقتًا للاحتفاظ بالحزن، وتسميته، ثم نتحرر منه خطوةً بخطوة.
وقد دعا الشاعر الكبير إبراهيم ناجي إلى مهارة النسيان نفسها في قصيدته الأطلال حين قال:
فتعلّم كيف تنسى وتعلّم كيف تمحـو
واقطع الحبلَ الذي يبكي إذا شدّوه
هكذا نعرف أن الشعراء قبل علماء النفس أدركوا أن الفراق ليس حدثًا… بل فنّ.
وقد نحتاج إلى خطة لهذا الرحيل؛ فيمكننا تجريب الفقدان في أعماق أصغر، فهذا يخلق مرونة نفسية، ويُخفّف من صدمة الرحيل الكبير. كما أن الإنسان يستطيع إعادة بناء نفسه عبر السرد، وهناك دراسات في العلاج السردي تُظهر أن تحويل التجربة إلى سردٍ متماسك يقلّل الألم، ويزيد من الإحساس بالتحكم. ويمكن أيضًا الاستعانة بالآخرين، فلا نقلل من قيمة مجتمعٍ يدعمنا، سواء كانوا أصدقاء، أو أسرة، أو مرشدين وأخصائيين نفسيين في بعض حالات الرحيل الكبيرة.
ويحمي الإنسان نفسه من ألم الرحيل بالتدريب المسبق عليه؛ بمعنى أن نؤمن بأن دوام الحال من المُحال، وكما قال الحكماء: "لا شيء يبقى على حاله"، فالتصالح مع فكرة "اللا ثبات" يمنحنا حرية انفعالية، تجعلنا أكثر تقبلًا للتغير، وأقل رهبةً من الفراق، وأكثر استعدادًا للاختيار.
والرحيل ليس نهاية قاسية تحكم بالإعدام على ذاكرة جميلة، بل هو فن يُعلّمنا كيف نغلق أبوابًا، ونفتح نوافذ، وكيف نحزن ونتعلم، وكيف نفقد ونجد.
لا توجد علاقة – مهما كانت طبيعتها – تستحق أن نخسر لأجلها احترامنا لذواتنا. الرحيل في وقته شفاء، والتشبث بالمكان الخطأ نزيف. ليس كل من يبقى وفيًّا، وليس كل من يرحل خائنًا؛ أحيانًا يكون الفراق أخلاقًا، وانتصارًا لذواتنا. ولكن هل يعني هذا أن الرحيل يصبح سهلًا؟
الإجابة: لا. حتى إبراهيم ناجي نفسه الذي كتب "فتعلّم كيف تنسى" لم ينسَ، بل كتب الأطلال بعد سنوات من فراقٍ لم يبرأ منه.
ليس مطلوبًا أن نرحل بلا ألم، لكن يمكن أن نتعلم كيف نرحل بوعي، كيف نجعل من الوداع بابًا لحياة أخرى، وكيف نحفظ لأنفسنا كرامتها وذاكرتها. وإذا كان هناك شيء نتعلمه من الرحيل، فهو أننا نمتلك القدرة على إعادة تشكيل ذواتنا، وأن في كل وداعٍ بذرة لقاءٍ جديد، وحياة جديدة تحمل لنا أملًا في غدٍ أفضل… وهذه حقيقة نستطيع أن نعيشها دون شعارات.
-----------------------
بقلم: سحر الببلاوي