إن خطورة الصمت الدولي إزاء بجاحة نتنياهو وحماقاته واستهانته ليس فقط بالقانون الدولي وإنما بالأعراف والتقاليد التي احترمها العالم واعتبرت من النظام العام حتي وإن لم تحتويها وثائق، أنه قد يتسبب برعونته ليس فقط في نشوب حرب كبري في منطقة الشرق الأوسط، واندلاع اضطرابات وانتفاضات وثورات، بل قد يصل الأمر إلي حد نشوب حرب عالمية ثالثة.
وليست هناك مبالغة فيما تقدم، ولعل التاريخ يقدم لنا صوراً كثيرة نتعلم منها، فقد أجمع مثلاً كل جنرالات هتلر أثناء محاكمات نورمبرج بعد استسلام ألمانيا، أنه لولا اتفاق ميونيخ لما قام هتلر بالهجوم علي تشيكوسلوفاكيا، خاصة وأن بعض كبار القادة كانوا يعدون إنقلاباً عليه عندما يبدأ في الشروع بالغزو ، إلا أنهم فوجئوا بأكبر قادة العالم يهرولون إلي ميونيخ ويسلمون بكل شروط هتلر لإقتطاع جزء كبير من تشيكوسلوفاكيا (مثلما هرول بايدن وكبار قادة الغرب كي يجتمعوا بنتنياهو في مركز القيادة العسكري بإسرائيل داعمين ومباركين للمذبحة التي كان يعدها لغزة).
تشير اعترافات جنرالات النازي أنهم ذهلوا من تسليم قادة آوروبا في ميونيخ بأن يحصل هتلر علي تشيكوسلوفيا دون إطلاق طلقة واحدة، وأسقط في يدهم، إذ كيف ينقلبون علي زعيم حقق نصراً واستولي علي أرض دون أن يطلق طلقة آو يخسر جندياً واحداً، أنهم لو فعلوا سوف ينقلب عليهم الشعب الألماني نفسه.
والعجيب، أن هتلر – وفقاً لكل الروايات – كان كمن يلعب "بوكر" دون أن تكون لديه آي كروت رابحة تقريباً، فقد كانت جبهته في الغرب تجاه فرنسا ضعيفة ولا توجد فيها أي حشود للقوات الألمانية تسمح بالصمود أمام الجيش الفرنسي الأكثر عدداً وعدة، خاصة إذا انضمت إليه القوات البريطانية، بل وإذا أمكن التوصل إلي تحالف بين الغرب والإتحاد السوفييتي بشكل مبكر ضد هتلر، لأنه سيكون في هذه الحالة مضطراً للقتال علي جبهتين، بما يعرضه لهزيمة ساحقة إذا حاول تنفيذ تهديداته بغزو تشيكوسلوفاكيا، وهو ما أجمعت عليه كل الدراسات التي بحثت في تلك المرحلة الإبتدائية للصراع.
لقد ظن نيفيل تشمبرلين ، رئيس وزرا ء بريطانيا ، وكذلك "دالدييه" رئيس وزراء فرنسا، أنهما حققا انتصاراً دبلوماسياً هاماً في ميونيخ، وتم استقبالهما استقبال المنتصرين في بلديهما، حيث ساد الرأي بأنهما لم ينقذا الغرب فقط من ويلات الحرب، وإنما حالا دون الهزيمة فيها، وأن لندن وباريس لن تتعرضا لقصف جوي من الطائرات الألمانية الحديثة.
وعندما سُئل "كتل" قائد القوات الألمانية في محكمة نورمبرج عن موقفه وموقف الجنرالات الداعمين لهتلر بعد إبرام إتفاق ميوينخ، أجاب: "كنا في غاية السعادة ، لأن الاتفاق حال دون وقوع عمليات عسكرية، فقد كنا جميعاً نعلم أن مهاجمة تحصينات الجبهة في تشيكوسلوفاكيا أمر شبه مستحيل، ولم نكن نمتلك الأدوات الكافية لإحراز نصر فيها، بل أن التقديرات العسكرية التي عرضت علي هتلر كانت تؤكد أن ألمانيا لا تمتلك الوسائل الكافية للقيام بهجوم يخترق التحصينات الأمامية لتشيكوسلوفاكيا، التي كان جيشها من أفضل الجيوش الأوربية آنذاك" ..
سمح اتفاق ميونيخ بإستسلام تشيكوسلوفاكيا دون حرب!!
ومثل العدد الضئيل من السياسيين والمثقفين المصريين الذين اعترضوا علي إتفاق كامب ديفيد، كان النائب ونستون تشرشل يمثل أقلية حيث وقف في مجلس العموم يوم ٥ أكتوبر ١٩٣٨ مهاجماً إتفاق ميونيخ الذي وقع عليه رئيس وزراء بريطانيا نيفيل تشمبرلين، والذي تضمن السماح لهتلر بالتهام تشيكوسلوفاكيا بعد أن كان قد التهم بالفعل دولة النمسا دون أن يطلق طلقة واحدة.
قال تشرشل غاضباً : "لقد هزمنا هزيمة كاملة لا مراء فيها، نحن الآن نحيا مصيبة من الطراز الأول.. كل أوروبا سوف يتم التهامها ضمن النظام التوسعي للسياسات النازية التي ترسل أشعتها من برلين، ولا أظن أن تلك هي النهاية، أنها مجرد بداية" ...
ولعل القارئ يتساءل: "هل كان استسلام بريطانيا وفرنسا وخضوعهما المذل في مواجهة هتلر أمر لا مناص منه؟".. وتقديري بناء علي كل ما قراته من وثائق الحرب العالمية الثانية، أنه لم يكن هناك مبرر معقول لذلك الخضوع آمام إملاءات رجل مجنون، بل أن كل ما يتوفر الآن من معلومات حول تلك الفترة، يؤكد أنه لو صمدت بريطانيا وفرنسا، وقاما بشكل مبكر بالإعلان أنهما سيواجهان – ولو بالقوة – خطط هتلر في التوسع، فلربما تغير وجه التاريخ ولم تقع الحرب العالمية الثانية أصلاً ...
وأعتقد في أهمية إحتواء إسرائيل في هذه المرحلة، ومواجهة أسوأ قادتها منذ إنشائها، وخاصة بنيامين نتنياهو الذي يتشابه كثيراً في الخصائص النفسية مع هتلر ، وحتي الشكلية وهو يلقي خطاباته منفعلاً وهو يهدد المنطقة كلها بأنه سيعيد رسم خريطتها ..
أعتقد بشكل جازم، كما اعتقد تشرشل، في ضرورة الإعلان بشكل مبكر، ومنذ الآن، أن النظام الإقليمي الأمني في المنطقة سوف يتصدي لخططه في التوسع، ولو بالقوة المسلحة (نظام أمني يكون هيكله الأساسي مصر وتركيا والسعودية وإيران وباكستان)، وقد يساعد ذلك بعض الجنرالات العقلاء في الجيش الإسرائيلي في الحيلولة دون اندفاع ذلك الشخص الأرعن كي يشعل الشرق الآوسط، وربما العالم كله.
إحتواء نتنياهو يمثل أهم خطوة لتحقيق السلام ..
---------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق