وتكتب غزة تاريخها بدمها فتغير سرد العالَم عنها، فطِن أهلوها لأهمية أن يستعيدوا روايتهم بأنفسهم وبأصواتهم وبأوجاعهم.. وبرؤاهم، بعد أن شوهتها عدسات وبيانات الآخرين.. فوحدها تملك عدسات قادرة علىٰ تصوير صوت الوجع.
نجخت غزة في أن تغير ضمير العالَم، حين فضحت ازدواجية المعايير.. فأجبرت الشعوب - تحديدًا - علىٰ الخروج لإعادة تعريف وصياغة مصطلحي: "العدالة" و"الإنسانية".
أفلحت غزة في القبض علىٰ ذاكرتها؛ لتحوي الذي رحل من أهلها وبيوتها المهدمة وحواريها وأزقتها المدمرة.. وثّقَته بعدسات الوجع والألم الممزوجان بالكبرياء، فأدركنا -حينها- قداسة كل حجر بعد أن صار شاهدًا يتكلم.. وقيمة كل جدار لأنه بات يحمل قصصًا وروايات كُتبت بالدم.
علمتنا غزة أن مفراداتها من بشر وحجر وشجر مهما غابوا فالمكان يتنفس عطرهم؛ وعبق أفكارهم؛ ورؤاهم؛ وطُهر عقيدتهم؛ وعمق تمسكهم بأرضهم ومبادئهم التي مزجوها لأبنائهم مع حليب الأمهات.. وربما وهم ما يزالون أجنة في الأرحام الشريفة يسّمعون في صمتٍ جليل لحكايا الأباء والأجداد قبل أن تطأ أقدامهم أرض غز..ة العزة.
علمت غزة العالم كيف يزرع الزهر فوق الركام.. وكيف يرسم شمسًا أعلىٰ الجدار.. يقينًا بقدرة أهلها على إنبات الضوء ثانيةً من تحت الأنقاض.
أدركت غزة أن كل أقلام العالَم باهتة.. باردة.. وأن البيانات مفبركة وميتة، وأن العالَم يبيع الوهم في نشرات الأخبار، وأن عبارات الشجب والتنديد تُسكب علىٰ جراحها تمامًا كما يُسكب الملح على النار.
قبضت علىٰ كرامتها؛ وبصُرت دمها السيال فقررتْ أن تكتب به قصة وجعها، فهو الحبر الذي لا يجف ولا ينطفىء.
كتبَتْ وسجلَتْ أمام أعين العالم عن كل بيت هُدّم وهو يحوي داخله فصلًا من كتاب العزّة.. عن كل طفلٍ ناجٍ يحمل عنوانًا جديدًا في سجل الكرامة.. عن كل امرأة عفيفة قدمت الأبناء والزوج شهداء..حقًّا تعبت من بكاء الفراق؛ لكنها ما تزال تسرد كتاب الله دون دمعة يأسٍ أو ندم.
قد تصمت غزة وأهلها حينًا.. ساعتها اعلمْ أنه ليس ضعفًا.. بل لغتها الخاصة التي هي أعمق من كل الخطب الرنانة التي امتازت بها "أمة الخطابة".. لغة الجِراح التي تروي الحكايا دون وسطاء.. لغة الأمهات اللاتي يحضنّ الثرىٰ في صمت دفيء كأنه مهد طفلٍ غائب لكنه حتمًا سيعود.
في ذات الوقت لم ولن تنتظر غزة أن يعتذر أحد عن صمته تجاهها، أو يحاول -كيلا يُراق ماء وجهه- أن يُربت علىٰ وجعها، موقنةً أن الكرامة لا تُستجدىٰ ولا تُصاغ في عبارات، بل تُسقىٰ بالدماء في الأزقة المحاصرة.. لتخط" سِفر البطولة" لمدينة لن تموت مهما نزفت.. لمدينة لا تسمح للهزيمة أن تسكن روحها، لذاكرة عصية علىٰ أن تنسىٰ ما سجلته بدماء أبنائها.. فهل تعبت غزة أم أتعبت ضمير العالم؟
------------------------
بقلم: حورية عبيدة