ظهر ٢٣ اكتوبر ١٩٧٣ .. لم نتمكن من دفن العريف جابر يواقيم .. كانت دبابات العدو تطبق من كل الاتجاهات علي موقع الكمين فضلاً عن قصف مدفعية شديد .. كان من الواضح ان العدو جن جنونه بعد ان ظن شارون ان الطريق مفتوح للدخول الي السويس .. كل ما تمكننا ان نفعله هو ان وضعنا جثمان جابر في بطانيتين ، وكنا علي وشك الانتهاء من الحفرة التي سنواريه فيها حين اقتربت بشكل خطير سيارة العدو المدرعة م ١١٣ كي يقوم بأسرنا .. كانت الذخيرة قد نفذت .. انسحبنا وتركنا جثمان جابر فوق الأرض ..
خلال الايام التالية كنت استعيد ذكرياتي مع كل الشهداء من رجالي ، وكان الألم يعتصرني كلما تذكرت اننا لم نواري جابر الثري ..
كتبت بنفسي شهادات استشهاد الرجال حتي تتمكن اسرهم من صرف التعويضات.. وهي مسؤولية كبيرة خاصة بالنسبة للمفقودين لأسباب تتعلق بالميراث وعلاقات أسرية اهمها الزواج .. وقد كتبت شهادة استشهاد جابر لأنني رأيته في بحيرة من دمه ، وعندما كنا نضعه في البطاطين لم تكن به اي علامة للحياة ..
كنت قد أصبت في ساقي اليسري، وجلست في ملجئي بعد وقف إطلاق النار أستعيد ذكريات الشهداء ، وتذكرت متبسماً وأنا استرجع بعض ذكرياتي مع جابر حكايته مع الملاكمة ، فقد كنت أدرب فريق الملاكمة لمجموعة الصاعقة في الجيش الثالث (لأنني لعبت ملاكمة في شبابي) ، وكان وزن الثقيل غير متوفر ، فأقنعت جابر بصعوبة ان ينضم للفريق كي يلعب لهذا الوزن، وكانت مشكلته انه كان يهوي حمل الاثقال، وذلك كان يقيد حركة ذراعيه الي حد كبير فلا يستطيع أن يحركها بالمرونة التي يتطلبها لاعب الملاكمة، وقد حاولت قبل بدء المباريات دفعه كي يحرك ذراعيه، واثناء التدريب كاد يصيبيني إصابة بالغة حيت قمت باستفزازه وضربه في انفه بتكرار وانا أسخر منه كي يحرك ذراعيه.. ولحسن حظي انحنيت في اللحظة الاخيرة حين انطلق ذراعه الأيمن بقوة في اتجاه وجهي، شعرت وكأن قطاراً يمر من فوق راسي، وعبثاً حاولت إيقافه وهو مصمم علي مواصلة اللعب بين صياح وضحك ضباط وجنود الكتيبة ..
كانت المباراة الأولي لنا مع قوات الدفاع الجوي، وقد طمأنت القائد بأن الانتصار مضمون، فنحن صاعقة علي كل حال.. ولكن فوجئنا بالمستوي الراقي لملاكمي الدفاع الجوي، وقبل ان نصل للوزن الثقيل الاخير كنا متعادلين (كسبت أنا الوزن الذي كنت العب فيه وهو المتوسط ) ، وبالتالي اصبح انتصارنا وإنقاذ سمعة الصاعقة، وسمعتي أمام القائد مرهون بانتصار جابر في آخر الأوزان التي ستلعب في تلك الليلة ..
وقبل أن يصعد للحلبة فوجئت به يقول لي أنه سمع أن اللاعب الذي سيلاعبه هو بطل الدقهلية في الملاكمة. وكان خصمه قصير القامة ولكنه ضخم الجثة بشكل مخيف، في حين ان جابر طويل القامة ممشوق القوام .. طمأنته بان ما يقال مجرد شائعات من الدفاع الجوي لتخويفه، ووعدته بناء علي طلبه أن القي الفوطة علي الحلبة كي أسحبه اذا تبين عجزه عن مواصلة اللعب ..
ومع بداية المباراة انقض ملاكم الدفاع الجوي بمجموعات مستقيمة في ضلوع وذقن جابر الذي بدا يترنح وأنا أصرخ فيه كي يمد ذراعيه ويضرب .. كان كلما اقترب من الحبال يهمس لي "ارمي الفوطة يا أفندم"، وبالطبع كان ذلك مستحيلاً، فلا يجوز لمقاتل الصاعقة أن يترك المعركة، ويبدو أن ضربة قوية في أمعائه حولته إلي مجنون، فقد انقض غاضباً يركل خصمه ويصارعه بحركات الإشتباك، دون أن يستجيب لأوامر الحكم أو لصراخ قائد الدفاع الجوي، بل انه انطلق خلف خصمه الذي ترك الحلبة مذعوراً وهو يجري...
وكانت مشكلة كبيرة، حيث تم شطب كل نتائجنا، وغضب قائدي مني.. كانت فضيحة .. لأن عساكرنا أيضاً في الجمهور هجموا علي عساكر الدفاع الجوي.. ففي عرف الصاعقة الهزيمة مرفوضة (ولا روح رياضية ولا دياولو) ..
وأصبحت رواية مضحكة نحكيها، حتي حدث ما حدث في الحرب، فصارت لدينا حكاية أخطر .. ولقد كتبت ونشرت كل هذه الذكريات بعد الحرب ..
بعد أشهر من انتهاء الحرب وبدء عملية تبادل الأسري، كانت كتيبة الصاعقة قد عادت من الجبهة واحتلت مواقعها في الجبل الأحمر ، وبينما كنت أراجع بعض الأوراق في خيمتي شعرت بظل عملاق يحجب الشمس وهو يزيح كنار الخيمة قائلاً : "كده يا أفندم تسيبوني وتمشوا ؟" .. كان صوته.. التفت لأجده هو بشحمه ولحمه "جابر يواقيم"، نهضت كي اعانقه مذهولاً .. اختلطت دموعي بدموعه .. وجلسنا نستعيد كل شيء ..
كانت تلك واحدة من المعجزات الكثيرة في هذه الحرب، لأنه لم يكن به أي نبض فعلاً حين تركناه، وكان قد أصيب بطلقة نصف بوصة ونزف كثيراً أثناء اشتباكنا مع الدبابات .. وبعد ان ابتعدت الدبابات إثر خسائرها أمام الكمين.. تمكنا من دفن محمد السيد والسيد سلطان ورضوان، وكان جابر علي حافة الكمين البعيدة، لذلك كان الأخير ..
لقد نقله العدو بطائرة هليكوبتر ظناً منهم ان ذلك الشاب المتعضل الوسيم الذي يرتدي اوفارول الصاعقة المموه هو قائد تلك المجموعة التي كبدتهم ٣ دبابات في منطقة كانوا لا يتوقعون فيها مقاومة ..
لقد أجروا له عمليات دقيقة ونقل دم وبدأوا في استجوابه ولم يصدقوا ابداً أنه عريف في الصاعقة.. اما كيف لم نكتشف نحن أنه حي، فلا بد أن تتخيل الوضع الذي كنا فيه ، حصار وقصف من كل اتجاه ، دخان وغبار وصراخ المصابين .. ولقد أمسكت بشريان رقبته بيدي .. لم يكن هناك نبض .. ولو انتظرنا ثانية واحدة لكنا قد وقعنا جميعاً في الأسر ..
كنت أداعبه بعد ذلك دائماً بأنه " رفع كالمسيح " .. فكان يضحك من كل قلبه ، متمتماً في خجل وورع : "أستغفر الله" ..
-----------------------------
بقلم السفير/ معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق







