كان للعازف المصري العالمي رمزي يسّى، (1948-)، حضورًا قويًا في حفلاته، أناقة ووسامة وعزفًا. اعتدت حضور حفلاته التي كان يقيمها في دار الأوبرا المصرية، وأحيانًا في مسرح الهناجر، الملحق بها، منذ أوائل التسعينيات، ضمن حفلاته التي يقيمها في زوايا العالم الأربعة، منذ اتخذ باريس مقرًا لإقامته.
الحصول على تذكرة يعني أنك أخذت أقرب مواصلة فور قراءتك إعلان الحفل في الجرائد المحلية، ووقفت مع الطابور المنتظر أمام شباك التذاكر، لم تكن هناك إنترنت ولا مواقع تحجز منها، وأنت على سرير نومك، تذكرة لحفل سيقام بعد أيام أو أسابيع، في بعض الأحيان كنت اضطر لحجز التذكرة نهارًا، ثم العودة للبيت وارتداء الملابس الرسمية لحضور الحفل مساءً. تأجيل الحجز لقبيل الحفل مباشرة، مقامرة غير مضمونة.
حافظ رمزي على مسافة معنوية فاصلة بينه وبين الجمهور، حتى في الحفلات التي أقامها في مسرح الهناجر، والمسافة لا تزيد عن المترين بينه وبين أقرب صف مقاعد، فيما يسمى "موسيقى الحجرة Chamber Music"؛ يبادل الجمهور التحية قبل بدء العزف، ويحني رأسه قليلاً ردًا على تصفيق الحضور، من حين لآخر.
وإذا كان رمزي يسّى قد حمل إلى جمهوره صرامة المدرسة الكلاسيكية وأجواء موسيقى القاعات الأوروبية وأصداء معزوفات بيتهوفن، وشوبان، وتشايكوفسكي، فإن زميله وقرينه في الميلاد عمر خيرت اختار طريقًا آخر، أكثر انفتاحًا وتمازجًا مع المزاج المصري والعربي، وترك بصمات في وجدان عموم الناس عبر تترات مسلسلات خالدة مثل ليالي الحلمية، والمال والبنون، والراية البيضا، وزيزينيا وغيرها مما صار جزءًا من ذاكرتنا الجماعية.
من هنا يتفاعل معه الجمهور إعجابًا في حفلاته ويرددون على إيقاع موسيقاه الأغنية تلو الأخرى، ليلتفت إليهم من حين لآخر بوجه كله ابتسام وامتنان، فإذا ما علا واشتد التصفيق بعد مقطوعة بعينها، وقف وحيا جمهوره بانحناءة مهذبة. لا أذكر لعمر أنه فعل أكثر من ذلك مع الجمهور، باستثناء تلك المداعبة مع الفنانة لطيفة في فيلم "سكوت هنصور"، إنتاج عام 2001، والتي لا أشك أن المخرج يوسف شاهين هو من دفعه إليها دفعًا، حين شدت من كلمات الرائع جمال بخيت، أغنية "المصري":
"تعرف تتكلم بلدي
وتشم الورد البلدي
وتعيش الحلم العصري .. يبقى انت أكيد المصري
...........
تعرف بالعربي تنادي
بسم الله وبسم بلادي
نورك للعالم يسري .. يبقى انت أكيد المصري"
وإذا كان عمر خيرت قد أعاد تعريف علاقة المصريين بالموسيقى التصويرية والحفلات الجماهيرية، فإن عمرو سليم، (1960-)، قدّم وجهًا ثالثًا لعازف البيانو؛ وجهًا اقترب فيه من الجمهور كأنه واحد منهم، يضحك معهم ويداعبهم بخفة دم ويشاركهم الغناء.
تلبية لدعوة كريمة من جمعية أصدقاء المتحف المصري للحضارة حضرت مؤخرًا حفلا عزف فيه عمرو في رحاب المتحف ضمن احتفاليات اليوم العالمي للسياحة، 27 سبتمبر من كل عام، مقطوعات ترسخت في وجدان المصريين والعرب وصارت جزءًا من تاريخهم وهويتهم، رش عليها من ملح تعقيباته اللذيذة والخفيفة القادرة على انتزاع الضحكات والابتسامات من الحضور بعد كل مقطوعة.
بصوت مسرحي علق ساخرًا: (الحمد لله، عدّت أول مقطوعة.. عقبال الثانية!)، فينتزع الضحكات ويرسم الابتسامات قبل معاودة العزف وتقديم نبذة عن مُلحن المقطوعة التالية وأهم أعماله وما يميزه عن غيره، مع كتابة كلمات الأغنية على شاشة كبيرة خلف الفرقة الموسيقية، تحض الجمهور على التفاعل؛ هو يعزف والجمهور يغني.
أيضًا، برع عمرو في تأليف الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات؛ ذئاب الجبل، لن أعيش في جلباب أبي، وفيلم المصير، وكذلك في معزوفات "ميدلي Medley"؛ ويقصد بها مزج أو دمج مجموعة من الألحان أو الأغاني معًا في مقطوعة واحدة متصلة، سواء لمغني وملحن واحد مثل يا مالكًا قلبي، وقارئة الفنجان لعبد الحليم حافظ ألحان الموسيقار محمد الموجي، أو ملحن واحد وأكثر من مغني؛ كما فعل مع بليغ حمدي في أغاني ألف ليلة وليلة، أنا كل ما أقول التوبة، مكسوفة، على رمش عيونها، وغيرها.
بيانو واحد، وثلاثة عوالم مختلفة: رمزي يسّى بصرامته الكلاسيكية، عمر خيرت بجسوره بين الشرق والغرب، وعمرو سليم بخفة روحه التي تذيب المسافات. وكل منهم، بطريقته، عزف لنا ما صار جزءًا من وجداننا الجمعي.
------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]