في السياسة، كما في التاريخ، هناك لحظات تكتسب معنى أبعد من الحدث ذاته.
لحظة اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين في أيلول/سبتمبر 2025 ليست مجرد بيان دبلوماسي، بل ارتداد تاريخي يحمل دلالات أبعد من البروتوكول. فالدولة التي منحت منذ أكثر من قرن وعدًا زرع بذور المأساة، تعود الآن لتعترف — ولو متأخرة — بأن فلسطين دولة قائمة بذاتها.
حين كتب آرثر جيمس بلفور رسالته عام 1917، لم يكن يتصور أن جملة لا تتجاوز بضعة أسطر ستتحول إلى نقطة بداية لصراع طويل، وإلى مرجع تستند إليه سياسات التهجير والاقتلاع لعقود.
ومع صك الانتداب عام 1922، تحولت الرسالة إلى سياسة استعمارية مقننة، وصولًا إلى النكبة عام 1948 التي دشنت مأساة إنسانية ما زالت تتكرر حتى اللحظة.
لكن ما يلفت الانتباه هو أن الاعتراف البريطاني الأخير لا يعبّر فقط عن "تغيير في المزاج السياسي"، بل عن تحوّل أعمق في إدراك الغرب بأن إنكار الحقائق لم يعد ممكنًا. فإصرار الفلسطينيين على البقاء، ومراكمة الاعترافات الدولية — من آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، ثم أوروبا تباعًا — فرض معادلة جديدة. لم يعد ممكناً تجاهل شعب لم يختفِ رغم كل محاولات الطمس، ولم تسقط قضيته رغم كل مشاريع التسوية الناقصة.
هنا تكمن المفارقة بريطانيا لم تقدّم اعتذارًا على وعد بلفور، ولن تفعل.
لكنها، من خلال الاعتراف بدولة فلسطين، قدّمت الدليل على أن القانون الدولي، مهما أُهمل، يبقى حاضرًا كظلّ طويل يعيد تشكيل السياسات.
هذه الخطوة لا تُعيد فلسطين لأصحابها، لكنها تُسجّل على الصهيونية وحلفائها أن دائرة التاريخ قادرة على الالتفاف مهما طال الزمن.
السياسة لا تعترف بالعدالة إلا مضطرة، لكن الفلسطينيين أثبتوا أن التضحيات المتراكمة يمكن أن تحوّل "الاضطرار" إلى واقع سياسي.
والاعترافات الأوروبية المتلاحقة — من إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا في 2024، وصولًا إلى بريطانيا وأستراليا وكندا وبلجيكا وفرنسا ومالطا في 2025 — تمثل تراكمًا استراتيجيًا يعيد رسم ميزان القوى في الخطاب الدولي.
التاريخ لا يعتذر، لكنه لا يُمحى.
وما بين الوعد الأول والاعتراف الأخير، ظل الفلسطينيون ثابتين على أرضهم، يكتبون حقائقهم بالدم والذاكرة.
أما القوى الكبرى، فكل ما تستطيع فعله هو أن تدور في دوائر السياسة حتى تصل — في النهاية — إلى حقيقة يعرفها الفلسطينيون منذ البداية: أن هذه الأرض لهم، وأن الحق لا يسقط بالتقادم.
-------------------------
بقلم: حاتم نظمي
* كاتب فلسطيني