No Naser Again .. جملة عنونت بها الصحف الأميركية في خمسينات القرن الماضي. قرأها بأم عينيه المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقي ، في صحف أوروبا وأميركا أثناء سفره في تلك الفترة ، التي تلت هزيمة العدوان الثلاثي الذي شنته اسرائيل وإنجلترا وفرنسا عقابًا لمصر على تأميم قناة السويس (او الكنال كما يفضل أهلنا في مدن السويس والإسماعيلية وبور سعيد أن ينطقونها .. أظنه نطقٌ من باب التدليل .. أو المحبة المشوبة بالفخر )
كم مرة درس عاصم الدسوقي (ولد في ٣١ اغسطس ١٩٣٩ يشارف على السابعة والثمانين متعه الله بالعافية والصحة) هذا الدرس لطلابه في كليات الآداب بجامعة عين شمس وجامعة حلوان وغيرها من الكليات! ومع أن "خازوق "برج القاهرة مازال منتصبا ، وينال من كرامة وكبرياء الكاوبوي الأميركي ، وذلك في وقت مبكر جدا من ظهور نجم عبد الناصر وبزوغ زعامته .. إلا أن قطيعا من "أنفار التراحيل" الذين لم يرتقوا في التعليم لمستوى آبائهم الفلاحين - الأُجرَاء - العظام ، الذين غيرت مجرى حياتهم ال "فدادين خمسة"، تنكروا لكل نقلة اجتماعية حصلت لهم - والغريب أن يحدث ذلك بينما كانوا ينخرطون في الدراسة بأعلى مواقع التعليم ، الذي حصلوا عليه بفضل سياسات الثورة! حصلوا على الماجستير والدكتوراه، وربما ابتعثوا إلى الجامعات الاجنبية ، وعادوا بعدها نجوما ساطعين في مجتمعهم المطحون الذي انتظر رجوعهم بفارغ الصبر، إلا أنهم تنكروا لكل شيء، حتى بيئتهم التي كانت تئن من سياسات الإقطاع، ووزعوا الاتهامات بغير ضمير على الثورة وزعيمها، وانهالوا باللائمة على تاريخ جمال عبد الناصر، بعد أن قرأوا - وهم كالحمير تحمل أسفارًا - لشخص يدعى أحمد رائف تاريخه الزائف ( ما أسماه "البوابة السوداء") ولـ"مصطفى أمين" صاحب أخبار اليوم وأحد ألمع أساتذة المهنة في عصره ، سنة أولى سجن ( مجموعة صدرت تحمل هذه العناوين من سنة أولى حتى سنة عاشرة، وإن لم تصادف الكتب التسعة الأخرى نجاحا مثل الكتاب الأول!) والذي كان سببا في اشتعال الحملة ضد عبد الناصر ، فقد وفِدَ إليها كل جريح ومتضرر منه ومن سياساته، مثل "رائف" الزائف هذا ، وأحمد أبو الفتح الذي كان يتاجر بالسلاح وهو في بلاط صاحبة الجلالة (!!) ، والأستاذ جلال الدين الحمامصي ، صاحب الـ " حوار وراء الأسوار " وأول من تعدى على تخصص CIA في تلفيق التهم ، وزعم أن ذمة عبد الناصر المالية ليست بيضاء من غير سوء ، رغم كل محاولات اميركا بجلالة قدرها أن تجد ثغرة واحدة في جسد الرجل الذي كان يقترض من البنك ليدخل ابنته الجامعة، ويستبدل معاشه كأي مصري ليفي بالتزاماته ويزوج بناته !
No Naser Again .. ومع هذا يكتب أحمد جلال كشك: إن ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ أميركية ! وأن عبد الناصر صنيعة المخابرات المركزية الأميركية! لم يبلغ عبد الناصر مبلغًا عظيما من الشهرة والريادة إلا بعد أن تمت تنحية الرئيس محمد نجيب عن الرئاسة، وخلفه عبد الناصر ، ووقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحدثت الهزيمة السياسية لدول استعمارية قديمة (فرنسا وانكلترا بالتحالف مع اسرائيل). هنا صعد نجم جمال عبد الناصر كزعيم قاد شعبه نحو الانتصار ، وقال "هنحارب ولو بغطيان الحلل"، مثلما قال بعد ذلك - وصارت عبارته مثلًا - عند بناء السد العالى، إثْر سحب البنك الدولي عرضه بتمويله: "هنبني السد ولو بالمقاطف"! والبنك الدولي أسسه ودعا إلى فكرته رجل كان وزيرا للدفاع في اميركا، هو ديفيد روكفلر .. أميركي يمثل في هذا البنك بلده التي هي إحدي القوتين الأعظم - بتعبير الأستاذ هيكل - تأمر فتطاع ، كما هي الحال هذه الأيام السوداء. تأملوا أو تخيلوا، ما الذي كان ممكنا أن يحدث في المنطقة لو أن عبد الناصر لم يرحل إلى بارئه؟ ماذا لو استمرّ يحكم مصر حتى هذه الأيام .. في زمن البرازيلي لولا داسيلفا ورئيس كولومبيا غوستافو بيترو ، ورئيس وزراء أسبانيا بيدرو سانشيز وسائر الزعامات الشريفة التي تعارض السياسات الأميركية الشنيعة ، والتي كانت كل مسارات ناصر ضدها ، ولذلك أسس هو و نهرو وتيتو مجموعة عدم الانحياز ! تخيلوا بإنصاف مجرد إنصاف ، وليس خيالا مريضًا ، كذلك الخيال المريض الذي استولى على عقول عديد من الأساتذة الذين لم يغير التعليم العالي في عقولهم أي شيء، فظلوا رعاة وبدوًا رُحّلا فكريًا ، يمارسون هجومهم على عبد الناصر ، باني السد العالى - الذي يحمي مصر من الجوع والعطش في زمن سد الخراب الأثيوبي حتى اليوم - فيغمزون السد من قناة حجز الطمي عند البحيرة ، مما أثر على جودة وخصوبة التربة وأثر على جودة المحاصيل الزراعية !
هؤلاء البدو الرحل فكريًا مازالوا يعيثون في الفكر العربي فسادًا، فيرون في أميركا والكيان الصهيوني عدو العرب الأول ، ومع هذا لا يتورعون عن نقد العروبة والقومية العربية والوحدة العربية التي سعى ناصر لإقامتها ! يغتالون مشاريعه من اجل التصنيع ويرونها "فنكوش ".. ثم يهاجمون حصول أحمد عز على شركة الدخيلة التي اشتراها من قطاع الأعمال، واصبحت كبرى شركات الحديد الخاصة اليوم ! هاجموا الإصلاح الزراعي و عمليات استصلاح الأراضي في مناطق عديدة ، واليوم يتساءلون أين ولماذا لم تستصلح المزيد من الأراضي؟! لا يتساءلون عن القطن المصري ولا زراعة الأرز والقمح - الممنوعة بفرمانات أميركية! يهاجمون الرجل الذي قال عنه فتحي رضوان: عبد الناصر قالها زمان / الاستعمار في الأمريكان، هكذا تحدث وزير الإرشاد فتحي رضوان عام ١٩٨٤ في مؤتمر القوى الوطنية المنعقد بنقابة المحامين ، وحضره رموز حزبية وقوى وطنية! يهاجمون الاميركان سدنة الظلم والاستعمار في هذا الزمان، لكنهم يتناسون أن الذي حدث الناس بصدق وإيمان عن أن الاستعمار في الأمريكان هو ناصر ، فيهاجمون اليوم أميركا والكيان ولكنهم لايترحمون على جمال عبد الناصر . ومثلما توقف المشير عبد الحكيم عامر عسكريا عند رتبة الصاغ ، فهم توقفوا عن القراءة ولم يسمعوا أن زعيما صينيا مثل شواين لاي فجع بوفاة عبد الناصر في عمر مبكر جدا (52) عاما فقط ، ولم تزد مدة حكمه عن 14 عامًا .. أمم فيها قناة السويس - والتى انتبه الى ضرورة تأميمها بعد أن أبلغه فتحي رضوان بما تخطط له إنجلترا صاحبة الامتياز في القناة وأنها لن ترحل عنها في الميعاد المتفق عليه، وهو ما تسرب لصحف هندية نشرت الخبر - وبنى السد العالى، وشيد آلاف المصانع، للطائرات والصواريخ والحديد والألمنيوم والغزل والنسيج وغيرها، ولم يسمح ومصر مهزومة في 67 بأن يهتز ميزان الأسر ، وتتأثر حياتها بالهزيمة ، فترتفع أسعار السلع والمواد الغذائية، لم يحدث ذلك أبدًا طوال فترة حكمه القصيرة ، بل كان يعاقب الوزراء الذين يسمحون بزيادة أسعار الدقيق والأرز. كان يحيا بالجماهير .. ويعيش مثلهم ، وإنا أصدق الأستاذ هيكل الراحل عن دنيانا وأكذب عمرو موسى .. العائش بيننا، فقد روي الأستاذ أنه حاول ذات عشاء عادي أن يخبره بأن هناك ألوانا وأنواعا اخري من الأطعمة، منها الباريسية والإيطالية والأوروبية ، مما يستحق ان يجرّبه عبد الناصر ، فلا تكون حياته جبنًا وزيتونا فقط ، بينما روى عمرو موسي أنه كان يؤتى له بطعام مخصوص من الخارج ، في رواية أثارت الاستياء والتعجب، فموقعه في تلك الأثناء لم يكن يتيح له معرفة أي شيء عن حياة الزعيم أو ماذا يأكل أو يشرب! والسؤال : كم من الأموال أهدر الرئيس عبد الناصر على طعامه، وعلى "البِدَلْ صنع المحلة التي كان يرتديها ؟ وكم سيارة كاديلاك أو مرسيدس مثلًا وجدت في مرآب بيته المتواضع في منشية البكري.. بل كم جنيها عثر عليها في خزنته الخاصة ؟!
لم يسمح الأميركان بعد رحيل ناصر بناصر آخر ، و الخازوق المنتصب في برج الجزيرة بقيمة مليون دولار حاولت بها شراء ذمته، وإغرائه بعدم مساندة ثورة الجزائر ، شاهدًا على ذلك، فقد رفض عرضها وأهانها وشيد بالمبلغ برج القاهرة 56/60 ليبقى شاهدًا على أنه لايبيع مبادئه، وأنه لاتشتري له ذمة ولا تباع عنده مباديء أو يضيع له تاريخ .. لكن ومع هذا يستمر أناس في أعلى درجات الثقافة والتعليم في الاستسهال. والحكم على الرجل ، من دون النظر إلى عصره ، ووضعه في مكانه الحقيقي الذي هو جدير به ، كأحد أهم بناة مصر الحديثه .
عقلية البدو الرحل ماتزال سائدة، فمثل هؤلاء الناس لايقرأون ، ويستسهلون ما ارتكنوا اليه من اتهامات، كذلك الأستاذ في التاريخ الإسلامي الدكتور أحمد شلبي الذي كتب عنوانا لأحد كتبه عن عصر عبد الناصر، يجافي كل قواعد التاريخ، فقد أسماه عصر المظالم والهزائم، مع ان كتبه نفسها لم تحرض على تفكير ، وكانت تفضل الطالب الناقل وليس الطالب العاقل الناقد المفكر . وهي مقتبسه من آخرين، تماما مثلما فعل كمساري التاريخ عبد العظيم رمضان الذي بأمر من السادات كتب "تحطيم الالهة " والآخر الذي وصف فى مذكراته جمال عبد الناصر بأنه شخصية حاقدة (جمال حماد) …وغيرهم من البدو الرحل فكريًا ، الذين ينسف افكارهم الزعيم الصيني الشهير شواين لاي الذي فاجأ هيكل في لقاء لهما بعد وفاة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر بقوله مستغربًا : "كيف سمحتم له أن يموت"؟!
الباقي هو الله ..رحمك الله ياجمال عبد الناصر .
-------------------------
بقلم: محمود الشربيني