27 - 09 - 2025

رئيس مصر يطلب تحالفا عسكريا مع أمريكا !

رئيس مصر يطلب تحالفا عسكريا مع أمريكا !

"المأزق " .. ذلك هو العنوان الذي يمكن أن يتصدر الأيام التي تلت تأميم مصر لشركة قناة السويس ، ولكن يتضح بشكل أكبر إعتباراً من ليلة ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦ إلي نهاية العدوان الثلاثي علي مصر ..

وهو عنوان يصلح لكل أطراف المآساة ؛

فهو بالنسبة إلي مصر : مأزق خطير في مواجهة إحتمالات خطرة ليس فقط علي مستقبل النظام السياسي ، وإنما أيضاً  علي مستقبل مصر كلها ؛

وهو مأزق لأطراف الإعتداء ، بعد أن استدارت الولايات المتحدة الأمريكية ضدهم بكل ما تملكه من قوة تأثير ونفوذ لا جدال فيه ؛

لكنه كان أيضاً ، بشكل ما مأزقا للإدارة الأمريكية التي كان يرأسها الرئيس دوايت أيزنهاور ، ويتأهب لدخول معركة انتخابات فترته الرئاسية الثانية بعد شهر واحد ، في مواجهة بروز اللوبي اليهودي كعامل مؤثر ( سيتزايد تأثيره فيما بعد ) ، ولكن الجنرال الذي قاد قوات الحلفاء للنصر علي النازي ، تمسك بموقفه الأخلاقي مصرحاً بأنه : "لن يسمح لإعتبارات داخلية مثل الانتخابات ، أن تجعله يتراجع عن المبادئ التي يقتنع بها" .

ولكن عبد الناصر لم يكن ساكناً أو صامتاً ، كما تكشف الوثائق السرية أنه طلب مقابلة السفير الأمريكي كي يسلمه رسالة عاجلة إلي الرئيس إيزنهاور شرح فيها عزمه علي مقاومة العدوان ، وقد قام بنفسه بإملاء الرسالة باللغة الإنجليزية وهو يقرأها بالعربية ويترجمها في نفس الوقت ( لم يكن يريد أن يفقد أي وقت قبل أن تصل رسالته).

وقد فوجئ السفير الأمريكي آن عبد الناصر يطلب صراحة دعما عسكريا من أمريكا حال حدوث العدوان بالفعل ، مشيراً إلي أن بعض الناس توقعوا أنه سيلجأ للاتحاد السوفييتي للحصول علي هذه المساعدة ، لكن الحكومة المصرية قدرت موقفها بعناية، وقررت اللجوء إلي الولايات المتحدة الأمريكية ، وأعرب للسفير أنه يأمل أن يدرج هذا الطلب في خطاب كان ينوي إلقاءه حتي يعرف الشعب المصري ما الذي ينويه .. واستفسر من السفير الأمريكي عن رأيه ؟ .

أجابه السفير ، أنه فيما يتعلق بالدعم العسكري ، فإن الطرف الوحيد الذي يمكنه أن يجيب هو حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ، ومع ذلك ، فأنه لو أراد أن يعبر عن "رأيه الشخصي" ، فأنه لا يظن إمكانية الذهاب إلي هذا الحد .. لأن ذلك لا يتطلب فقط قراراً سياسياً بالغ الخطورة ، بل سيتطلب أيضاً إجراء من الكونجرس الأمريكي .. وأوضح السفير (ربما لتذكير عبد الناصر) أن حكومته قد قطعت بالفعل شوطاً طويلاً (يقصد في معارضة سياسة الحلفاء) ، وأنه لا يري أن الوضع يمكن أن يصل إلي الدخول في صراع مع حلفاء أمريكا ... ويقول السفير في برقيته أن عبد الناصر أبدي تفهمه !! ..

بمكن أن نلاحظ هنا أن عبد الناصر ما كانت تغيب عنه هذه البديهية ، ولكن الرجل في أتون الأزمة أراد فيما يبدو أن يرفع رهاناته ، ويلوح بالكارت الأحمر السوفييتي ، مع وضوح عدم رغبته الوصول إلي هذا الحد بالفعل ، ولكنه اكتفي بمجرد التلويح كي يثير قلق واشنطن ، ويدفعها لمزيد من الضغط علي حلفائها.

وفيما يتعلق بنشر محتوي الرسالة ، أبدي السفير إعتقاده أن الموضوع شديد الحساسية لنشره علناً ، ووافق عبد الناصر علي الإمتناع عن ذكر ما جاء فيه إلا باتفاق متبادل ، لكنه أصر علي أنه إذا تقرر النشر ، فيجب أن يتم أولاً في القاهرة ، أو في توقيت واحد مع واشنطن ،

وفي ذلك يتضح أسلوب عبد الناصر في الإحتفاظ بكل الكروت قريبة إلي صدره ، فهو يعلم بلا شك كما قلنا حرج ذلك سياسياً بالنسبة للرئيس إيزنهاور ، لكنه يعلم من متابعته للسياسة الأمريكية وآليات واشنطن ، آنه سيتم تسريب ما لهذا المضمون الخطير ، ومن الجائز أن يردع البريطانيين والفرنسيين .

ويبدو أن السفير الأمريكي التقط محاولة من عبد الناصر لإبتزاز الموقف الأمريكي ، من خلال ما وصفه كيسنجر بعد ذلك بنصف قرن : " أن عبد الناصر كان يتلاعب بالمناورة بين القوتين الأعظم في وقت فراغه " ، لذلك قال السفير بشكل إعتذاري وهو يطلب من عبد الناصر أن يسمح له أن يكون صريحاً معه (كما كتب في برقيته لواشنطن) أنه في بعض الأحيان يلجأ طرف في الشؤون الدولية أن يطرح أسئلة بشكل أو بآخر وهو يتوقع إجابة سلبية ، بهدف التمهيد لخطوة أخري قد تعتبر في غير محلها وغير مقبولة ، خاصة أنه سيكون الأمر مأساوياً بعد كل ما بذلته أمريكا من جهد في هذه القضية ،  أن يطرح عليها طلباً يتجاوز قدرتها علي الإستجابة له ، لمجرد أن يتخذ من ذلك ذريعة للتوجه إلي الروس !!.

وكتب السفير : " أن عبد الناصر بدا متفاجئاً بعض الشئ من هذا النهج الذي لا يعتبره دقيقاً ( أو لائقاً ) ، ولكنه استعاد هدوءه سريعاً ، وقال أن الطلب المصري صادق تماما ، ولم يتم التوصل إليه إلا بعد تفكير عميق ، وأضاف  : أن خروتشوف عرض تقديم متطوعين ،ولكن مصر لم ترد بأي شكل من الأشكال " .

أضاف عبد الناصر أنه بعترف بالجدية التي تصرفت بها الولايات المتحدة ، ويقدرها تماماً ، ولكن إذا كانت المسألة مهمة بالنسبة للأمريكيين ، فإنها – كما قال عبد الناصر – مسألة حياة أو موت بالنسة لمصر .

ورداً علي السفير الأمريكي قبل أن يغادر ،  قال أنه بالنسبة له شخصياً ، فأنه لن يستسلم ، ولن يهرب ..

وكانت ليلة ٢٩ آكتوبر ١٩٥٦، ليلة عصيبة عاشتها مصر، بين الخوف والرجاء، بين الشعور بآلام الظلم من جبابرة قدامي المستعمرين ، وبين الإصرار علي المقاومة إلي النهاية ، وليكن ما يكون ..

ولكن .. كانت هناك أيضاً ، أصوات أخري – وإن كانت خافتة – شامتة في الكولونيل الشاب ، وفي انتظار سقوطه المؤكد .

(صفحات من كتابي – تحت الطبع – "دبلوماسية السويس")
--------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

رئيس مصر يطلب تحالفا عسكريا مع أمريكا !