في شوارع بكين المزدحمة وأزقتها الحيوية، لم تعد السيارات وحدها هي المسيطرة على المشهد المروري، بل أخذت الدراجات الكهربائية مكانة بارزة حتى أصبحت جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية للمواطنين.
هذه الظاهرة التي بدأت كخيار اقتصادي وصديق للبيئة، تحولت اليوم إلى ثقافة متجذرة تشمل النساء والرجال والشباب على حد سواء، لتجسد تحولًا اجتماعيًا وحضريًا لافتًا في الصين الحديثة.
وسيلة عملية تتحدى الزحام
تعاني العاصمة الصينية، مثلها مثل أي مدينة كبرى، من الازدحام المروري الخانق، ومع تزايد أعداد السكان والسيارات، ظهرت الحاجة إلى وسيلة نقل أكثر مرونة وأقل تكلفة.
هنا برزت الدراجات الكهربائية كخيار مثالي، حيث تمنح أصحابها القدرة على التنقل بسهولة بين الأحياء والشوارع الضيقة دون معاناة التوقف لساعات في الزحام.
حضور لافت للنساء
لا يمكن إنكار أن مشهد النساء وهنّ يقدن الدراجات الكهربائية أصبح جزءًا من الحياة اليومية في بكين.
ففي الصباح الباكر، تتزين الشوارع بعشرات النساء العاملات اللاتي يخترن الدراجة كبديل عن وسائل النقل العام المزدحمة.
بعضهن يضفن لمسات شخصية على الدراجة مثل الأغطية الملونة، أو إضافة مقاعد صغيرة للأطفال، مما يجعلها وسيلة عملية ومليئة بالحميمية العائلية.
هذا الحضور النسائي يعكس تحولًا اجتماعيًا مهمًا، حيث لم تعد قيادة الدراجة حكرًا على الرجال كما كان شائعًا في عقود مضت، بل باتت رمزًا لمشاركة المرأة الفعالة في الحياة العامة واستقلاليتها اليومية.
تقول ليو مينغ، موظفة في بكين: كنت أعاني يوميًا من الازدحام في المترو والحافلات، لكن منذ أن استخدمت الدراجة الكهربائية، أصبح التنقل أسهل بكثير، وأستطيع الذهاب للعمل والعودة بسرعة، كما أنني أستمتع بالهواء الطلق أثناء الرحلة.
تشينغ هوا، أم لطفلين تقول: أضفت مقعدًا صغيرًا لابني على الدراجة، وأصبحت أستطيع توصيله للمدرسة ثم التوجه لعملي دون الحاجة للسيارة، وهذا وفر علينا الكثير من الوقت والمال.
أما الرجال، فيجدون فيها حلاً اقتصاديًا وسريعًا للتنقل، فيما ينظر إليها الشباب كرمز للحرية والاستقلالية، وأيضًا كوسيلة عصرية تتماشى مع اهتماماتهم بالتكنولوجيا والاستدامة، وانغ جيان، مهندس يقول: أجد الدراجة الكهربائية وسيلة مثالية للانتقال بين الاجتماعات والمواقع المختلفة. كما أن شحنها رخيص مقارنة بتكاليف السيارة، وهذا يجعلها خيارًا عمليًا جدًا.
الشباب وصيحة التكنولوجيا
بالنسبة للشباب في الصين، تمثل الدراجة الكهربائية أكثر من مجرد وسيلة نقل، إنها أسلوب حياة. بفضل التطبيقات الذكية التي توفر خدمات مشاركة الدراجات الكهربائية بالدقيقة أو الساعة، أصبح امتلاك الدراجة أو استئجارها أمرًا في متناول الجميع.
فالشباب الصينيون يستخدمون هذه الدراجات ليس فقط للتنقل من مكان إلى آخر، بل أيضًا كجزء من أنشطتهم الترفيهية والرياضية.
علاوة على ذلك، تساهم الدراجة الكهربائية في تعزيز الوعي البيئي لدى الشباب، فهي وسيلة صديقة للبيئة لا تصدر انبعاثات كربونية، وتتماشى مع التوجه العالمي لمكافحة التغير المناخي، ولهذا، ينظر إليها الشباب على أنها خيار حضاري ينسجم مع قيم الاستدامة التي تروج لها الدولة الصينية.
ليو تشين، طالب جامعي يقول: أحب الدراجات الكهربائية لأنها تمنحني حرية التنقل في المدينة بحرية، كما أستطيع استخدام التطبيقات الذكية لمشاركة الدراجات بسهولة مع أصدقائي، وهذا جزء من أسلوب حياتنا العصري.
تشانغ هاي، مطور تطبيقات: إضافة إلى أنها صديقة للبيئة، فإن الدراجة الكهربائية تمنحني شعورًا بالاستقلالية والراحة النفسية بعيدًا عن زحام السيارات.
دعم حكومي وتشريعات مرنة
الحكومة الصينية لعبت دورًا محوريًا في انتشار ثقافة الدراجات الكهربائية، فقد وضعت قوانين مرنة تسمح باستخدامها بحرية في معظم الشوارع، مع إنشاء مسارات خاصة للدراجات لتجنب الحوادث وضمان السلامة.
كما قدمت السلطات حوافز لتشجيع الشركات على إنتاج وتطوير دراجات كهربائية أكثر أمانًا وكفاءة.
في بكين، على سبيل المثال، تنتشر محطات شحن البطاريات في الأحياء السكنية والمراكز التجارية، مما يسهل على المواطنين استخدام الدراجات دون قلق بشأن نفاد الطاقة.
هذا الدعم الحكومي جعل من الدراجات الكهربائية جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية النقل المستدام في البلاد.
الاقتصاد والادخار
جانب آخر يفسر الشعبية الكبيرة لهذه الوسيلة هو الجانب الاقتصادي. تكلفة شراء الدراجة الكهربائية وصيانتها منخفضة مقارنة بالسيارة أو حتى بالمواصلات العامة على المدى الطويل.
كما أن أسعار الكهرباء لشحن البطاريات تبقى معقولة جدًا.
وبالنسبة للأسر محدودة الدخل، تمثل الدراجة الكهربائية إنقاذًا حقيقيًا، فهي وسيلة تنقل يومية دون أن تثقل كاهلهم بالمصاريف.
التحديات والانتقادات
ورغم كل هذه الإيجابيات، لا تخلو الظاهرة من تحديات، فقد أثيرت انتقادات بشأن السرعة الزائدة لبعض السائقين الشباب الذين لا يلتزمون بقواعد المرور، مما قد يؤدي إلى حوادث.
كما ظهرت مخاوف من الفوضى في ركن الدراجات خاصة في الأماكن المزدحمة.
لكن الحكومة بدأت مؤخرًا بفرض قوانين أكثر صرامة لتقنين استخدامها وضبط المخالفين.
رمز حضاري جديد
في النهاية، يمكن القول إن الدراجات الكهربائية أصبحت رمزًا حضاريًا جديدًا يعكس ديناميكية المجتمع الصيني وتطلعه إلى حلول عصرية تجمع بين العملية والاستدامة.
وفي بكين تحديدًا، بات من المستحيل أن تمر بشارع دون أن ترى عشرات الدراجات الكهربائية التي يقودها رجال ونساء وشباب، كلٌ بطريقته وأسلوبه، لكنهم جميعًا يجسدون قصة نجاح حضرية واقتصادية وبيئية في آن واحد.
إنها ليست مجرد وسيلة نقل، بل ثقافة متكاملة تروي حكاية مجتمع يسابق الزمن نحو المستقبل، ويجعل من التكنولوجيا والوعي البيئي أساسًا لحياته اليومية.
وبينما تنطلق هذه الدراجات في شوارع بكين، تنطلق معها رسالة واضحة للعالم: أن التغيير يبدأ بخطوات بسيطة، قد تكون بدفع دواسة أو ضغط زر تشغيل دراجة كهربائية.
ومع تزايد الاهتمام العالمي بالنقل المستدام، أصبحت تجربة الصين في ثقافة استخدام الدراجات الكهربائية نموذجًا يحتذى به.
ففي الوقت الذي تشهد فيه بكين تحولًا حضريًا بيئيًا ملحوظًا، بدأت بعض الدول العربية تنظر إلى هذه التجربة للاستفادة منها في مواجهة التحديات المرورية والبيئية في مدنها الكبرى. تبادل الخبرات بين الصين والدول العربية في مجال النقل الذكي والدراجات الكهربائية يعكس عمق العلاقات الثنائية ويعزز التعاون في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما يخدم المجتمع والاقتصاد والبيئة على حد سواء.