27 - 09 - 2025

توم بارّاك.. ذهنية استعمارية تختزل العرب في قبائل وقرى

 توم بارّاك.. ذهنية استعمارية تختزل العرب في قبائل وقرى

التصريحات الأخيرة للسفير الأميركي في تركيا الصهيوني توم بارّاك التي نقلتها (الجزيرة) و(الشرق) و(العربية) وغيرها تكشف منذ اللحظة الأولى أننا لا نقف أمام دبلوماسي يسعى إلى تقريب وجهات النظر أو المساهمة في صياغة حلول سلمية للصراعات التي تمزق الشرق الأوسط، بل أمام عقل استعماري عنصري تتجلى فيه كل الميول الصهيونية التي تتعامل مع العالمين العربي والإسلامي بوصفهما أرضًا للفوضى والقبائل المتناحرة التي لا تستحق لا الدولة ولا السيادة. بارّاك في حديثه عن المنطقة لا يختلف عن أي مفكر استشراقي من القرن التاسع عشر، أو عن أي منظر صهيوني رأى أن وجود إسرائيل ضرورة حضارية لملء فراغ حضاري في الشرق. حين يصرّح "لا يوجد ما يُسمى بالشرق الأوسط. هذه تسمية حديثة. الواقع هو أن المنطقة مؤلَّفة من قبائل وقرى، وكل منها يبحث عن السلطة والشرعية. فكرة الدولة الحديثة هنا مجرد بناء اصطناعي" (العربية الإنجليزية)، فهو لا يصف الواقع كما هو، بل يعيد إنتاج أسطورة استعمارية تجعل من العرب والمسلمين مجرد كتل قبلية عاجزة عن إقامة دول حديثة. هذا المنطق نفسه الذي تبنته الحركة الصهيونية لتبرير اغتصاب فلسطين، بزعم أن هذه الأرض بلا دولة حقيقية ولا شعب قادر على إدارتها، وأن الغرب وحده مؤهل لفرض النظام فيها.

الصهيوني بارّاك لم يكتف بتبخيس فكرة الدولة في العالم العربي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين أعلن بصراحة أن السلام نفسه مجرد وهم. يقول: "إذا قلنا كلمة سلام، فهذا وهم. لم يكن هناك سلام قطّ في هذه المنطقة. وربما لن يكون هناك سلام أبدًا، لأن كل طرف يقاتل من أجل الشرعية والسيطرة" (تايمز أوف إسرائيل). هذا الكلام لا يترك مجالًا للشك في أن بارّاك لا يسعى لأي سلام، بل يريد تثبيت صورة استشراقية صهيونية عن شعوب محكومة بالصراع الأبدي، وبالتالي تبرير الاحتلال الإسرائيلي باعتباره جزءًا من "واقع" لا يتغير. حين تقول إن السلام وهم فأنت عمليًا تشرعن استمرار الحروب، وتحول الضحية إلى طرف مسؤول عن أبدية الصراع. هكذا يسقط بارّاك الرواية الفلسطينية، ويلغي حق العرب في العدالة، ويمنح إسرائيل غطاءً سياسيًا وأخلاقيًا للبقاء قوة عسكرية مهيمنة.

ما يكشف عنصريته الأشد قوله: "أنا لا أثق بأي طرف في الشرق الأوسط. مصالحنا ليست متوائمة مع أحد، بما في ذلك إسرائيل نفسها" (شينخوا الإنجليزية). هذه العبارة في ظاهرها مساواة بين الجميع، لكن حقيقتها أنها تعكس ازدراءً شاملًا لشعوب المنطقة وحكامها كلها، بوصفها أطرافًا لا ثقة بها ولا قيمة لمصالحها. أما ذكر إسرائيل هنا فليس سوى مراوغة لفظية، لأن كل تصريحاته الأخرى تصب في خدمة السردية الصهيونية. هو لا يثق في العرب لأنهم في نظره قبائل، ولا يؤمن بالسلام لأنهم "غير مؤهلين"، ويرى في إسرائيل النموذج الوحيد الذي ينسجم مع العقل الغربي. هذه نظرة عنصرية بامتياز، تجعل من شعوب بأكملها مجرد مادة خام للفوضى والحروب، في حين يُستثنى الكيان الصهيوني باعتباره شريكًا استراتيجيًا، حتى لو ادّعى عدم الثقة به.

وحين يتحدث عن سوريا، يتضح أكثر أن منطقه استعماري محض. يوضح: "الخطة الأميركية في النهاية هي أن نختصر وجودنا العسكري في سوريا إلى قاعدة واحدة فقط. نحن نتحرك نحو فهم شفاف مع بعض الأطراف، لكن هذا لا يعني أننا سنتخلى عن مصالحنا أو عن أمن حلفائنا" (الكونغرس الأميركي). في هذا التصريح، تتجلى الرؤية الاستعمارية التي ترى في الأراضي العربية مجرد مواقع عسكرية ينبغي الاحتفاظ بها لضمان النفوذ الأميركي والصهيوني. لا حديث عن سيادة السوريين أو حقهم في تقرير مصيرهم، بل عن "مصالحنا" و"حلفائنا"، أي لغة استعمارية صريحة لا تختلف في جوهرها عن لغة الانتداب والاحتلال المباشر. وكذلك فعل بالنسبة للبنان، حيث قال في تقرير آخر إن "إسرائيل لديها خمسة مواقع في جنوب لبنان ولن تنسحب منها"، في إشارة واضحة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية أمر طبيعي ومشروع في نظره.

الصهيوني لم يقف استعلاؤه عند حدود السياسات، بل تعداها إلى خطاب مباشر مهين تجاه الإعلام العربي، حين خاطب الصحفيين في بيروت: "أتمنى من الإعلام اللبناني أن يتصرف بشكل متحضّر. إذا بدأ المشهد يتحول إلى فوضى أو إلى شيء حيوانيّاني، فسوف أنهي هذا اللقاء فورًا" (الجزيرة الإنجليزية). هنا تتجلى بوضوح العنصرية الاستعمارية التي ترى في العرب كائنات فوضوية غير قادرة على السلوك الحضاري. ورغم أنه قدّم اعتذارًا لاحقًا عن استخدامه كلمة "حيوانيّاني"، قائلاً إنه لم يقصد الإهانة (أسوشيتد برس)، فإن جوهر كلامه لم يتغير: نظرة فوقية تعتبر شعوب المنطقة متخلفة تحتاج إلى ضبط وتأديب.

وفي مقابلة أخرى يقول: "في ذهن إسرائيل، هذه الخطوط التي أنشأها اتفاق سايكس-بيكو بلا معنى. إنهم سيذهبون حيث يشاؤون، ومتى يشاؤون، ويفعلون ما يريدون لحماية الإسرائيليين وحدودهم". هذه العبارة في جوهرها لا تختلف عن المقولة الصهيونية القديمة "حدود إسرائيل حيث تصل أقدام جنودها"، فهي تختزل منطق الاحتلال في القوة وحدها، وتجعل من الخرائط والاتفاقيات مجرد حبر على ورق أمام السطوة العسكرية. وفي تناوله لما جرى من إسرائيل للبنان وقطر، لخّص بقوله: "المشكلة ليست في الأرض أو الحدود فقط، بل في الشرعية. الجميع ـ سواء في إسرائيل، أو لبنان، أو قطر، أو غيرها ـ يسعى إلى فرض روايته الخاصة. ولهذا لا أرى أفقًا لسلام دائم" (ميدل إيست آي). هذا التلخيص ليس سوى قلب للحقائق؛ فحين يساوي بين إسرائيل التي قامت على اغتصاب الأرض وبين شعوب تناضل من أجل تحررها، فإنه يضع الجلاد والضحية في كفة واحدة، وهو جوهر الخطاب الصهيوني الذي يسعى إلى نزع الشرعية عن القضية الفلسطينية، وتحويل الصراع إلى مجرد تنازع روايات متكافئة.

من خلال هذه التصريحات مجتمعة، يتضح أن توم بارّاك ليس دبلوماسيًا يبحث عن حلول، بل عقل صهيوني عنصري استعماري يرى في العرب والمسلمين مجرد قبائل عاجزة، ويعتبر السلام وهمًا، ويشرعن الاحتلال باعتباره واقعًا أبديًا، ويستبقي الوجود الأميركي العسكري كأداة سيطرة. حتى حين يعتذر عن تصريح مهين، فإن نبرة استعلائه لا تختفي، لأنها متجذرة في وعيه السياسي. إنه صورة حديثة من صور الاستعمار التي تتزيّا بلباس الدبلوماسية، لكنها في الجوهر إعادة إنتاج للرؤية الصهيونية التي لا ترى في المنطقة سوى أرض مستباحة للهيمنة، محكومة بالصراع الأبدي، ومحرومة من أي أفق للحرية والسيادة.
------------------------
بقلم: محمد الحمامصي