نشرت مجلة "Modern Diplomacy" الدولية مقال رأي للباحثة الألمانية "سارة نويمان"، وهي عالمة سياسية وكاتبة مستقلة، متخصصة في العلاقات الدولية ودراسات الأمن وسياسات الشرق الأوسط، حاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هومبولت في برلين، تحلل فيه سلوك إسرائيل العسكري منذ أن بدأت هجومها على الأراضي الإيرانية في يونيو 2025 وتلته بهجوم أخر مباغت أحادي الجانب على دولة قطر في سبتمبر الجاري، ما يؤكد جنوح إسرائيل إلى نمط الحرب الاستباقية بذريعة "الدفاع الوقائي" في سابقة تؤسس بها للحنث بالقوانين والمواثيق الدولية وعدم احترام سيادة الدول، الأمر الذي يقود العالم إلى منعطف كارثي تصبح فيه الحرب هي "الوضع الافتراضي".
إليكم نص المقال:
في 13 يونيو 2025، هزّت انفجارات هائلة الأراضي الإيرانية، انفجارات لم تُعطّل المنشآت العسكرية والنووية فحسب، بل هزّت أركان النظام الدولي. حيث أطلقت إسرائيل على عمليتها اسم "الأسد الصاعد" وبرّرتها بأنها "دفاع استباقي" ضد التهديد النووي الإيراني، فنفّذت هجومًا خلّف دمارًا بشريًا وبنيويًا واسع النطاق. إلا أن غياب الأدلة الدامغة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتقييمات الاستخبارات الأمريكية أضعف حجّة إسرائيل وأثار شكوكًا جدية حول شرعيتها. جراء طمس الخط الفاصل بين الدفاع الوقائي والحرب الاستباقية، أوحى هذا الهجوم بمستقبل أكثر قتامة، حيث تصبح الحرب مجرد روتين والسلام استثناءً هشًا. في مثل هذه البيئة، تُسرّع التقنيات الجديدة، مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، عملية صنع القرار، مما يزيد من خطر عدم الاستقرار والصراع الأهوج، ويؤكد مجددًا الحاجة المُلحّة إلى استعادة الحدود الأخلاقية والقانونية من خلال الشفافية والدبلوماسية.
بُرِّرت الضربة الإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية في نطنز وفوردو، بالإضافة إلى قواعد ومراكز عسكرية تابعة لكبار القادة، بذريعة منع طهران من امتلاك أسلحة نووية. جاء ذلك على الرغم من تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتقييمات الاستخبارات الأمريكية التي تشير إلى عدم امتلاك إيران أي برنامج نووي نشط، في حين كانت المفاوضات الدبلوماسية لإحياء الاتفاق النووي لا تزال جارية. أدى غياب الأدلة إلى تحول عمل إسرائيل من الدفاع الوقائي، ردًا على تهديد وشيك، إلى حرب استباقية تُشنّ على أساس مخاطر مستقبلية محتملة. وتنتهك هذه الخطوة المبادئ الأخلاقية للحرب العادلة، التي لا تسمح باستخدام القوة إلا في مواجهة تهديد لا مفر منه وفوريّ لا يترك مجالًا للتدبُر.
إن التمييز بين المَنع والاستباق أمرٌ بالغ الأهمية من الناحية القانونية. فالضربة الإسرائيلية أحادية الجانب، التي نُفِّذت دون أدلة موثوقة ودون تنسيق مع المؤسسات الدولية، انتهكت المادة (42) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تحظر استخدام القوة. ولم يكن للاستناد إلى مبدأ الدفاع الاستباقي عن النفس، وهو مبدأ يُطبَّق فقط في حالات نادرة عقب هجوم فعلي، أي أساسٍ صحيح في هذه الحالة. وبإرساء هذه السابقة، أرست إسرائيل نموذجًا خطيرًا يسمح للدول بشن هجمات بناءً على مخاوف ذاتية. ويُهدد هذا التوجه الاستقرار العالمي، وقد يشجع قوىً مثل الصين أو الهند على تبرير ممارسات على نفس الشاكلة.
دور التكنولوجيا في تسريع وتيرة الحرب
أظهرت عملية "الأسد الصاعد"، التي نُفذت باستخدام طائرات مُسيّرة متطورة وطائرات مقاتلة من طراز (إف-35)، كيف تُقلّص التقنيات العسكرية الحديثة وقت اتخاذ القرار. هذه الأنظمة، القادرة على تعطيل دفاعات العدو في دقائق، لا تترك مجالًا كبيرًا للدبلوماسية أو التفكير المُتأنّي. في الماضي، كان لدى الحكومات الوقت الكافي لتقييم الأدلة والسعي إلى المفاوضات قبل تصعيد التوترات. أما الآن، تدفع سرعة التقنيات الناشئة القادة إلى اتخاذ خيارات مُتسرّعة، حيث تتغلب الميزة التكتيكية على الاعتبارات الأخلاقية. هذا التسرع يزيد من احتمالية اتخاذ قرارات ممهورة تفتقر إلى التريُث، ومن ثم وقوع أخطاء كارثية، مثل الضربات غير المُبرّرة التي قد تتفاقم وتتحول إلى صراعات مُوسعة.
هذه التقنيات لا تُقصّر الأطر الزمنية فحسب، بل تُطمس أيضًا الحدود الفاصلة بين السلام والحرب. تُدمج الأنظمة ذاتية التشغيل المُدارة بالذكاء الاصطناعي والصواريخ الأسرع من الصوت، وهي عناصر أساسية في هذا الهجوم، الحرب في نسيج الجغرافيا السياسية اليومية. هذه الحالة، التي غالبًا ما تُوصف بـ "حالة استثنائية دائمة"، تُطبّع تبرير العنف وتُحيل السلام إلى استثناء نادر. بإلغاء فترات التأمل وزيادة الاعتماد على المعلومات الاستخباراتية السرية، يُعزز هذا التحول خطر أن تُصبح الحرب الوضع الافتراضي للشؤون العالمية.
العواقب العالمية للهجوم الإسرائيلي
شكّل الهجوم الإسرائيلي سابقةً خطيرةً قد تُزعزع استقرار النظام العالمي. إذا كانت مزاعم "التهديد الوجودي" كافيةً لتبرير هجمات استباقية، فقد تتجرأ دولٌ مثل كوريا الشمالية أو باكستان على اتخاذ إجراءاتٍ مماثلة ضد منافسيها. وعليه تُؤجج هذه الديناميكية سباقَ تسلحٍ جديداً تتنافس فيه الدول على تقنياتٍ أسرع وأكثر فتكاً. ويُجسّد خطر التسرب الإشعاعي من المواقع النووية الإيرانية، الذي تم تجاهله خلال الهجوم، إهمالَ التداعيات الإنسانية والبيئية. وقد تُؤدي هذه الإجراءات، التي تُعطي الأولوية للأهداف العسكرية على سلامة المدنيين، إلى كوارث بيئية وإنسانية تدوم عواقبها على مدار أجيالٍ طويلة.
كما أدت الضربة الأحادية إلى تآكل الثقة بالمؤسسات الدولية. فعندما تتصرف الحكومات بناءً على معلومات استخباراتية سرية بدلًا من تقييمات عالمية شفافة، تتفكك المعايير الدولية. وهذا يُضعف التعاون، ويعزز النزعة الأحادية، ويدفع النظام الدولي نحو الفوضى. وإذا ما استندت دول مثل الصين أو الهند إلى سابقة إسرائيل لتبرير ضربات ضد منافسيها، فقد تتصاعد النزاعات الإقليمية وصولاً إلى حروب عالمية. ومع تصاعد التوترات، يُهدد هذا المسار من عدم الاستقرار السلام العالمي نفسه.
لمنع تكرار مثل هذه الممارسات، يجب أن تخضع ادعاءات "التهديد الوشيك" للتدقيق من قبل هيئات محايدة، مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو لجان تحقيق مستقلة. يمكن لهذا المستوى من الشفافية أن يحدّ من الإجراءات الاستباقية غير المبررة، ويعزز الثقة في النظام الدولي. في حالة إيران، مكّن غياب هذه الآليات إسرائيل من شنّ هجوم دون تقديم أدلة موثوقة. إن وضع إجراءات شفافة من شأنه أن يمنع إساءة استخدام ادعاءات الدفاع الاستباقي. كما أنه سيُلزم الدول بتقديم أدلتها علنًا قبل الشروع في عمل عسكري، مما يُقلل من مخاطر اتخاذ قرارات تستند إلى معلومات استخباراتية ناقصة أو متحيزة.
يتعين إعطاء الأولوية للدبلوماسية باعتبارها السبيل الرئيسي لحل النزاعات قبل اللجوء إلى القوة. وقد أظهرت المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة وقت الهجوم أن القنوات الدبلوماسية لا تزال مفتوحة. علاوة على ذلك، ينبغي تقييم المخاطر المدنية، مثل المخاطر البيئية الناجمة عن الضربات على المنشآت النووية، علنًا قبل شن أي هجوم عسكري. ويلعب الإعلام والمجتمع المدني دورًا حاسمًا في محاسبة الحكومات. ويمكن لهذه التدابير، من خلال إعادة فرض القيود الأخلاقية والقانونية، أن تمنع الحرب من أن تصبح هي القاعدة. وبدون هذه الآليات، يُخاطر العالم بتبني نموذج يستبدل فيه الخوف والسرعة بالعقل والحوار.
لم يكن هجوم إسرائيل على إيران في 13 يونيو 2025 مجرد عمل عسكري، بل انتهاك صارخ للمبادئ الأخلاقية والقانونية التي يقوم عليها النظام العالمي. وقد كشفت هذه العملية أحادية الجانب، التي بررها الخوف من مستقبل افتراضي، عن تفضيل إسرائيل الاستراتيجي للهيمنة العسكرية على الدبلوماسية والشفافية. وبمحوها للحدود بين الوقاية والاستباق، وبدعم من التقنيات المتقدمة، صوّر الهجوم عالماً تُصبح فيه الحرب أمراً طبيعياً والسلام استثناءً. وبإضعافها للأعراف الدولية وتأجيجها سباق تسلح، هددت أفعال إسرائيل الاستقرار العالمي وخلقت سابقة خطيرة للدول الأخرى. إن سياساتها، التي تُعلي من شأن الخوف على العقل، لا تهدد السلام الإقليمي فحسب، بل تهدد الإنسانية نفسها أيضاً بالانزلاق نحو "حالة استثنائية دائمة". وبدون عودة سريعة إلى الشفافية والدبلوماسية وتقييم المخاطر المدنية، فإن نهج إسرائيل المدمر سيطفئ الأمل الهش أصلاً في التعايش السلمي.
------------------------
بقلم: Sarah Neumann
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
رابط المقال: