من بين خصائص الحياة المصرية المعاصرة ، نجد خصيصة الشعور الصناعي بالسعادة من أجل انجازات تافهة ، وقد شعرت بهذا الشعور حين كنت أجلس صابراً محتسباً في فرع لأحد البنوك الكبري منتظراً إنهاء معاملاتي ، وقد طال الإنتظار لأنه – كما قال مسئول البنك – " السيستم واقع " ..
وبغض النظر عن إستخدام هذا التزاوج العجيب بين كلمة إنجليزية ( System ) ،وكلمة عربية ( واقع ) ، فأن الجالسين حولي كانوا يبدون جميعاً مستسلمين تماماً لأقدارهم ، وكأنما الإنتظار جزء من جيناتهم الوارثية .
كانت كل عيون الصابرين تراقب في دأب حركات الموظفين خلف النوافذ ، وهم يفسرون إشارات وخلجات كل موظف ، فلعل وعسي تلك الإبتسامة التي ارتسمت علي وجه تلك الموظفة الحسناء تعني أن السيستم قد عاد ، أو ربما كان ذلك الموظف الذي يبدو مهماً وهو يدخل الآن مقطباً يشير إلي موظف آخر إشارة مبهمة قد تكون ذات دلالة علي عودة السيستم ..
ادهشني ذلك الإستسلام والتسليم من الجمهور ، واحتمالهم الذي يفوق إحتمال " أيوب " ، وأضحكني أن أحد الجالسين علي مقربة مني كان يتحدث في هاتفه النقال ، وسمعته يقول فيما يبدو لزوجته " مسألة بسيطة .. السيستم واقع .. زي كل يوم ..يمكن يرجع كمان ساعة أو ساعتين .... " ..
هالني ما رأيته وسمعته ، فذلك يعني -ضمن ما يعني- مدي تقديرنا لقيمة الوقت ..لقد سقط " الوقت" مع " السيستم " الواقع أصلاً .. ومن ناحية أخري ، ذلك يعني أيضاً مدي الإنهيار الذي تعاني منه مؤسساتنا ، وإذا لحقت هذه المصيبة بالنظام المصرفي ، فذلك خلل خطير ..
" السيستم واقع " ، ولكن الأمل في ربنا موجود ..
وعلي أضعف الإيمان ، فإن لحظة الفرح الصناعية عند عودة النبض لأجهزة الحاسوب في البنك ، لا يمكن إغفالها ، فهي فرحة طارئة تهلل لها الوجوه وتستبشر بها القلوب ، فتعود الإبتسامة إلي الملامح التي عذبها القلق ، فلقد عاد " السيستم " ، وهو ما يستدعي الإحتفاء والفرح رغم يقين الجميع أن "السيستم الأصلي واقع " ،أو أنه لا يوجد " سيستم " علي الإطلاق ..
هل يمكن أن يستمر مجتمع في دورانه دون قواعد حاكمة وآليات عمل منتظمة ؟..
تلك أسئلة كتبتها من داخل البنك ، إذ كنت أنتظر – صابراً محتسباً- لحظة فرح طارئة مؤقتة ، بعودة زائفة لسيستم لا وجود له في حياتنا ..
------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق