هذه الزاوية شهدت قبل نحو أربعة عشر شهرًا، مقالين متتاليين تحت عنوان «من يحاكم الشر»، تناولا محاكمات نورمبرغ وما تلاها، وربطا بين ذاكرة الهولوكوست وجرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.. فيما اليوم، إذ الدماء ما زالت تنزف، وأضحت الأرض نفسها تفقد القدرة على الاحتمال، والشر لم يُحاكم بعد..
فمنذ ما يقرب من ثمانية عقود، جلس قضاة العالم في مدينة نورمبرغ الألمانية يحاكمون كبار مجرمي الحرب النازيين على ما ارتكبوه من مذابح ومحرقة أودت بحياة الملايين، وكان الهدف المعلن وقتها: "ألا يتكرر الشر مرة أخرى".. اعتقد العالم حينها أن القانون الدولي الإنساني سيكون الدرع الحامية للبشرية، وأن العدالة يمكن أن توقف طغيان القوة.. إلا أنه وبعد مرور كل هذه السنوات، ونحن نقترب من إغلاق العام الثاني من الحرب الإسرائيلية على غزة، بأكثر من 65 ألفًا و400 شهيد وما يزيد على 167 ألفًا و300 مصاب معظمهم نساء وأطفال، يبدو أن الشر لم يُحاكم بعد، بل وجد من يحميه ويموله ويبرر جرائمه.
اليوم، لا تبدو غزة مجرد مدينة محاصرة، بل صورة مكثفة لخيبة الإنسانية.. البيوت سويت بالأرض، والمدارس قُصفت، والمستشفيات خرجت عن الخدمة، ، ولم تعد هناك ملاجئ.. حتى الخيام التي احتمى بها النازحون تحولت إلى رماد. لم يعد هناك كتاب يكتب عليه طفل كلمة "حرية"، ولا شجرة تُزرع لتكبر مع حلم البقاء؛ فآلة الحرب الإسرائيلية أثخنت في البشر والحجر والشجر، وأحكمت حصار الجوع حتى صار سلاحًا مضافًا إلى القصف والرصاص، إنها حرب لا تُبقي للعيش مقومات، ولا للأمل ملاذًا.
وإذا كان المجتمع الدولي قد انتفض عقب الحرب العالمية الثانية ليضع أسس القانون الدولي الإنساني، وليقول للعالم إن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، فما الذي يمنعه اليوم من تطبيق المبادئ نفسها على ما يجري في فلسطين؟ لماذا لم نشهد بعد "نورمبرغ" جديدة لمحاكمة قادة الاحتلال المتطرفين على ما اقترفوه من جرائم إبادة وتهجير قسري وتدمير ممنهج؟ هل لأن الضحية عربي؟ أو لأن الجاني مدعوم من قوى كبرى ترى في استمرار النزيف مصلحة سياسية أو اقتصادية؟
لقد وُصفت محاكمات نورمبرغ بأنها "أكبر محاكمة لجريمة قتل في التاريخ"، لكنها كانت أيضًا رسالة أمل بأن العدالة قد تطال حتى أقوى الطغاة.. واليوم، ومع استمرار مشاهد الدم والركام في غزة، ومع تصاعد الأصوات المطالبة في الأمم المتحدة بمحاسبة إسرائيل، يتجدد السؤال: هل سيبقى القانون أداة انتقائية تُستخدم ضد بعض الشعوب وتُعطل في وجه أخرى؟
في الأشهر الأخيرة، شهد العالم تحولًا في المزاج العام تجاه ما يحدث في فلسطين.. لم يعد الصمت سيد الموقف كما كان في حروب سابقة، عشرات الدول أعلنت صراحة دعمها لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، ومحكمة العدل الدولية أصدرت قرارات واضحة تُدين الاحتلال وتصف الاستيطان والضم القسري للأراضي بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي.. رئيس المحكمة نواف سلام أشار بوضوح إلى وجود أدلة تؤكد تهجير الفلسطينيين قسريًا ومصادرة أراضيهم واستغلالها في التوسع الاستيطاني في بيانات رسمية ليست عابرة، بل إدانة قضائية صريحة للاحتلال وممارساته.. أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة بالأمس القريب يؤكد في كلمة بليغة له أمام الجمعية الأممية، أن إقامة دولة للفلسطينيين ليست مكافأة وإنما حق، وأن الانحياز للمحتل هو وقوف في صف القوة الغاشمة لا في صف القانون..
الأصوات الشعبية كذلك تتصاعد من الجامعات الأمريكية إلى النقابات الأوروبية، ومن الشوارع اللاتينية إلى العواصم الآسيوية، مظاهرات خرجت تطالب بوقف الدعم العسكري لإسرائيل، وتدعو إلى فرض عقوبات، أو على الأقل تعليق التعاون الاقتصادي معها، بل إن بعض البرلمانات الأوروبية شهدت نقاشات حادة حول تعليق اتفاقيات الشراكة مع تل أبيب، هذا الحراك، وإن بدا غير كافٍ حتى الآن، فإنه يكشف أن صورة إسرائيل كـ"دولة فوق القانون" بدأت تتآكل أخلاقيًا.
ومع ذلك، لا تزال الإدارة الأمريكية تمثل الدرع الكبرى لحماية إسرائيل.. الفيتو يُستخدم في مجلس الأمن كأنما هو أداة لتعطيل العدالة، والبيانات الرسمية لا تتجاوز لغة "حق الدفاع عن النفس" التي تكررت حتى فقدت معناها.. أي دفاع هذا الذي يقتل أكثر من 65 ألف إنسان خلال أقل من عامين من العدوان؟ أي منطق ذاك الذي يبرر تدمير مدارس الأونروا وقصف المستشفيات وملاحقة قوافل الإغاثة الإنسانية؟
الحقيقة، لم يعد العدوان على غزة مجرد حرب بين طرفين، بل جريمة مفتوحة ضد الإنسانية تُبث للعالم مباشرة بالصوت والصورة، كل بيت يُقصف، كل طفل يُنتشل من تحت الأنقاض، كل أم تُودّع أبناءها، هو شاهد جديد على فشل المنظومة الدولية في تحقيق العدالة التي بشرت بها بعد الحرب العالمية الثانية.
الفلسطينيون لا يطلبون معجزة، ولا يسعون إلى مكافأة أو ترضية، إنهم يطالبون بحق بسيط وواضح بكمن في العيش بحرية على أرضهم، وإقامة دولتهم المستقلة.. هذا الحق الذي تعترف به كل المواثيق الدولية، لكنه يُؤجَّل كل مرة تحت ضغط المصالح والحسابات، كأن الفلسطينيين كُتب عليهم أن يدفعوا ثمن بقاء المنظومة الدولية أسيرة لمعادلات القوة.
ومع ذلك، فإن ما يحدث اليوم يفتح نافذة أمل، صحيح أن المحاكم لم تُنعقد بعد، وأن القتلة لا يزالون في مواقع السلطة، لكن الشر بدأ يُحاصر أخلاقيًا.. الدعوات لمحاسبة نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة لم تعد أصواتًا فردية، بل تحولت إلى خطاب دولي يتكرر في الأمم المتحدة وفي محاكم أوروبا وفي الشوارع الغربية، هناك وعي متزايد بأن استمرار هذه الجرائم لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يهز أساس العدالة الدولية نفسها.
محاكمة الشر ليست مجرد مطلب أخلاقي للفلسطينيين، بل ضرورة لحماية إنسانية العالم. فإذا سُمح بإفلات إسرائيل من العقاب بعد كل هذا الدم، فإن ذلك يعني ببساطة أن القانون الدولي مجرد ورق، وأن العدالة انتقائية، والبشرية لم تتعلم شيئًا من دروس نورمبرغ.
لقد آن الأوان أن يُعاد طرح السؤال بصوت عالٍ: من يحاكم الشر؟ من يقتص لأرواح أكثر من 65 ألف شهيد، ولحلم ملايين الفلسطينيين في الحرية؟ هل ننتظر عقودًا أخرى حتى يعترف العالم بأن ما حدث في غزة كان جريمة إبادة جماعية، كما حدث مع الهولوكوست؟ أو أن هذه المرة يمكن للعدالة أن تكون سريعة، منصفة، وعادلة؟
حلم الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة ليس هدية من أحد، ولا مكافأة تُمنح، بل حق أصيل وفرض عين على كل حر في هذا العالم أن يدافع عنه.. إنه الحق الذي يجب أن يُنتزع انتزاعًا بالشرعية الدولية وبالضغط الشعبي وبالمواجهة الأخلاقية مع كل من يحاول طمسه.
التاريخ لن يرحم المتفرجين، كما لم يرحم من صمتوا على المذابح في القرن الماضي، وما لم يجد هذا الشر من يحاكمه، فإن العالم كله سيبقى رهينة دوامة الظلم، عاجزًا عن تحقيق السلام الذي يليق بالإنسان.
-----------------------------
بقلم: عزت سلامة العاصي