03 - 10 - 2025

نوتات وجوه العازفين

نوتات وجوه العازفين

استغرقت، مؤخرًا، أتأمل وجوه العازفين أثناء حضوري حفلات موسيقية. تتنوع الألحان والنغمات وتكاد نوتات ملامح العازفين تكون واحدة لا تتغير. لكل فئة من العازفين بصمة وسمت. ربما يتفاعل مع الألحان نفسيًا بعيدًا عن تفاصيل ملامح الوجه.

آلات الإيقاع:

أكيد لاحظت أكثر من مرة ابتسامات وشقاوة وطفولية ملامح العازفين؛ غمز ولمز وقفشات على كل شاردة وواردة، خطأ عابر من أحد أعضاء الفرقة أو تعليق على تفاعل الجمهور. لغة صامتة: حروفها حركات الحواجب والرموش وتحريك الشفاه والرأس. لغة ثرية توارثوها جيل بعد جيل؛ من قَبل سيد "بريزة"، رقاق أول فرقة التحق بها الموسيقار الرائع عمار الشريعي في شبابه، إلى هيثم محمد وتقاسيم طبلة صفوت سرور وسعيد "الآرتيست"، وتحدي اسمع.. ولو جبل اثبت مكانك! لكن على مين.. كله بيتهز.

الناي:

قارن بين زاوية ميل رأس محمود عفت ومحمد عابد مع وضع الساعدين والطبطبة على الناي. راجع وفكر في سرسبة صوت النغم القادم من منطقة بعيدة بُعدْ سنوات ضوئية في مقدمة برنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود، وقارنهم بشقاوة عم سيد سالم، سمارة، وهو يزغزغ الناي ويعاكس ويناغش أم كلثوم ويخرج عن نوتة العفريت بليغ حمدي في لحن "بعيد عنك"، ويا سلام لما الست بصت له وقالت بلهجة بين الإعجاب والاستنكار؛ "إيه ده"، وإزاي شال الصالة وهبدها بين ضحك وتصفيق وإعجاب؛ ومعقولة الست عَلَقِت وخرجت بره بروازها؟ آه والله!

القانون:

لو بصيت على عازف القانون، تحس إنك داخل قاعة محكمة، وهو المستشار الكبير اللي "لا سامع ولا شايف غير القانون". وشه ثابت كأنه منحوت، ولو ضحك محتاج اثنين من الجمهور يشدّوا خدوده عشان يعرف يبتسم. محمد عبده صالح مثلًا كان يعزف من داخل كبسولة معزولة عن العالم، وأحمد فؤاد حسن كان يغرق في نغم الموجي من غير ما يرمش، بينما أكرم عبد العال يكسر القاعدة بضحكة أو نكتة في النُص. القانون في الآخر مش بس آلة، ده "مستشار" الفرقة: صموت، جاد، ومهما حاولت تستفزه مش ها يديك غير حُكم موسيقي قاطع على أوتاره، وده كله بخلاف المساحات الواسعة اللي بيقدمها الأورج وانسجام نغمات عماد الشريعي.

الكمان:

الكمان من وجهة نظري شياكة ووقار عمنا محمد مصطفى كامل ولمعان فصوص دبوس الكمان على طية صدر الجاكت. عازف أقرب لقديس يتأمل في محراب أبولو، وآخره معاك ابتسامة وانحناءة رأس خفيفة، يعني شكرًا على تكرار التصفيق. الكمان أناقة وحضور وكبرياء أحمد الحفناوي في أغنية "عاشق الروح" مع عبد الوهاب في فيلا يوسف بك وهبي، وانبهار ليلى مراد ودموع نجيب الريحاني، لما غنى:

"و كل دا وانت مش داري يا ناسيني وأنا جنبك

حاولت كتير أبوح واشكي وأقرب شكوتي منك

لقيتك في السما عالي وأنا في الأرض مش طايلك

حضنت الشكوى في قلبي وفطمت الروح على بابك"

وها تعمل إيه يا بني، "فالحب عليك هو المكتوب يا ولدي"، والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين، ومحكوم عليك تتشعبط في حبال الهوا الدايبة، وتحب وما تطولشي، وتمشي على الأرض وتعشق القمر، وسواء مات الريحاني من دور برد خده أثناء التصوير أو إنه التيفود، في النهاية مات مقهور! 

الأوكورديون:

أقولك سر؟ الأوكورديون فيه عفريت يزغزغ كل اللي يعزف عليه، من أول مختار السيد وصولوهاته مع عبد الحليم حافظ، إلى الأستاذ فاروق حسن في أغاني وردة، ومن بعده محسن علام. عندي شعور إن الابتسامة أول شرط في مؤهلات قبول عازف الأوكورديون، ولو ظبطوه لحظة مكشر، ممكن يقولوا له: "شوف آلة ثانية".

العود:

لكن عزيزي القارئ، كل ده كوم، والعود كوم آخر، ها تعزف عود؛ حاجة من إثنين، إما إنك تتقمص شخصية فريد الأطرش، ويفضل دوره في فيلم "حكاية العمر كله، مع فاتن حمامة "سمسم"، أو إنك تحط همومك قدامك وأنت بتعزف.. عندي إحساس إن عازف العود لازم يخاصم الفرح والتفاريح، صحيح الأستاذ علاء قرمان بيجي على نفسه ويبتسم، لكن من ورا قلبه..

عازف العود يتسلطن لما يعزف من مقام الصَبا والحُجاز، وتبقى ليلة مش ولابد لما يعزف عجم ورست وبياتي، شوف القصبجي وما يفرق معاه دندشة بليغ وبكائيات السنباطي. وفهمني إزاي ضحك علينا فريد وغني "الربيع" بملامح كلها خريف وبرق ورعد؟ منتهى التناقض! 

لكن العواد ممكن يعصر على نفسه ليمونة إذا الكلام فيه شجن وعذاب وفراق، حاجة زي دوخة عبد المطلب لما كان نفسه إن حبيبته تسأل عليه، ولو مرة، وها تقول إيه؟ كأن السؤال حُرم، وقال إيه "السؤال لغير الله مذلة!".. الراجل بقى يكلم نفسه:

"اسأل مرة عليا قول لي قساوتك ليه

أنا أفديك بعنيا وأكتر منهم إيه"

وها تعمل إيه في قاسي القلب الجاحد ناكر الجميل، وطبعك ولا ها تشتريه، وعمرك ما سألت الأول، لازم أنا اللي أسأل كل مرة، وعلى رأي إسماعيل ياسين، متريليوز (بندقية سريعة الطلقات) واتفتح، ومش ها تعرف تسد، (ويا عيني يا عيني يا عيني ع الولد).

جو زي ده يسلطن العواد ما يفرق معاه حبيب يتمرمط أو يتمسح بيه البلاط، مش موضوعه خالص، وي اريت بعد ما يقوله

"انت الكلمة الحلوة وعيونك معانيها

وانت جمالك غنوة من قلبي بغنيها

وانت عنيك ف عنيا قول لي قساوتك ليه"

يكون رده قاسي، ويا جماعة الخير اللي يعرف بيشتروا القساوة دي منين يقولنا، مش عشان نبقى قاسيين.. أبدًا.. يمكن نقدر نشتريها كلها، ونخبيها منه، وقلبه يحن.. وابقى قابلني لو حصل!..

الحفلة ليست موسيقى تُسمع فقط، بل وجوه تُقرأ. كل آلة لها لحنان؛ واحد تسمعه الأذن، وآخر تكتبه ملامح العازف على وجهه. سيمفونية مزدوجة.

وفي الختام، كل الشكر للدكتور محمد سعد الدين مؤسس صالون المنارة.. ناثر البهجة والسعادة.. وإلى كل المشاركين في الإعداد.

--------------
بقلم:
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

بيانو وثلاثة موسيقيين