يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أتقن فن صناعة الفوضى "FAFO" الذي يردده دائما، وهو فن الإفساد ثم ارتقاب النتائج (Fuck Around and Find Out) ويترجم سياسيًا بخلق الفوضى ثم إعادة ترتيبها، فسياسته الخارجية تشبه عرض سيرك دائماً، حيث يقفز من فوضى إلى أخرى ببراعة مذهلة، وكأن العالم هو حلبة لاستعراضات الأنا المتضخمة، محولاً الدبلوماسية الدولية إلى كوميديا سوداء، بغباء متعجرف لكنه ممنهج بعبقرية ترامبية يجسدها ببراعة.
ولا تأتي تلك السياسات من فراغ، بل هي التجلي الأبرز لثوابت استراتيجية عميقة للإدارة الأمريكية، كما تكشفها تصريحات مبعوثها الخاص إلى سوريا، توم براك في مقابلة خاصة لسكاي نيوز عربية بتاريخ 22 سبتمبر الجاري، أن الإدارة الأمريكية تتبنى نهجاً يقوم على ثوابت راسخة، تجاه الشرق الأوسط والشعوب الإسلامية، من خلال عدة محاور رئيسية، تجمع بين الثوابت التقليدية ونهج إدارة ترامب الخاص، مما يوضح أن الهمجية الظاهرة في أسلوب ترامب ما هي إلا القشرة العليا لنهج واقعي قاسٍ يعامل المنطقة كمسرح للمصالح وحقل لتجارب الفوضى ..
وتقوم الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط، كما توضح تصريحات براك، على ثلاثة محاور رئيسية لا تتغير باختلاف الإدارة، أولها الدعم غير المشروط لإسرائيل، واعتبار أفعال إسرائيل رداً على "حدث غيَّر كل شيء"، والاستمرار في الدعم العسكري والدبلوماسي حتى مع تزايد الاستياء الدولي، والمحور الثاني هو حماية المصالح الاقتصادية وأمن الطاقة، بالاهتمام بمنطقة الخليج لضمان تدفق النفط، واعتبار الشرق الأوسط منطقة مصالح حيوية للاقتصاد العالمي والأمريكي، أما المحور الثالث فهو احتواء النفوذ الإقليمي للمنافسين والنظر إلى إيران وحزب الله كعدو يجب وقف تمويله، وموازنة النفوذ الإقليمي للقوى المنافسة مثل روسيا والصين..
ويصر ترامب على أن مصالح أمريكا تعلو على كل الاعتبارات، متخذاً من المبدأ الشعبوي "أمريكا أولاً" ذريعة للأنانية الدولية، وكأن العالم عبارة عن بوفيه مفتوح لأمريكا وحدها، لقد حول السياسة الخارجية إلى عملية نهش اقتصادي وعسكري منفرد، حيث طالب الدول الحليفة مثل ألمانيا وإسرائيل واليابان والسعودية وكوريا الجنوبية بدفع فواتير الحماية الأمريكية، فإن ترامب ببساطة يختزل العلاقات الدولية إلى معادلة اقتصادية بحتة: "ادفعوا نحميكم".
وتعتمد الإدارة الأمريكية على مجموعة من الأدوات لتنفيذ استراتيجيتها، كالتباين في معايير الحلول، حيث تظهر تصريحات براك التأثر بالسياسات الترامبية من التناقض الواضح؛ فبينما يرى أن السلام في الشرق الأوسط "وهم" وأن مبادرات مثل الاعتراف بالدولة الفلسطينية "غير مفيدة"، نراه يشدد في الملف السوري على أن "الاستقرار في سوريا يتطلب تمكين الاقتصاد من العمل"، ويتخذ خطوات عملية لتخفيف العقوبات، وهذا يشير إلى أن "الحلول" الأمريكية انتقائية وتخضع لحسابات المصالح الضيقة بدلاً من الرؤية الاستراتيجية الشاملة.
وكذلك من الأدوات الأمريكية لتنفيذ استراتيجيتها، تفويض المسؤوليات وتجنب المباشرة، ففي قضية مثل نزع سلاح حزب الله، يؤكد براك أن "المسؤولية تقع على عاتق الحكومة اللبنانية فهذا ليس دورنا"، ويعكس هذا النهج رغبة واشنطن في تحقيق أهدافها الأمنية من خلال وكلاء محليين أو حلفاء، مع تجنب التورط المباشر الذي قد يكون مكلفاً، وهو ما يتوافق مع شعار "أمريكا أولاً".
كما تستخدم أمريكا أداة تكبر في نظرتها الاستعلائية تجاه الإسلام، وتكشف الوثائق القديمة والمعاصرة عن نظرة غربية استعلائية، حيث تسعى استراتيجيات أمريكية إلى "صنع إسلام جديد" أو "إسلام ليبرالي" يتوافق مع المصالح الأمريكية، ومحاولة تقسيم العالم الإسلامي إلى "أصوليين" و"تقليديين" و"حداثيين" لتعزيز الانقسامات الداخلية. وتشير كل المؤشرات إلى أن بوجود ترامب في البيت الأبيض سيسير في اتجاهات تعزيز نهج "أمريكا أولاً"، من خلال تقليل الالتزامات الدولية غير المباشرة والضغط على الحلفاء لتحمل المزيد من الأعباء، وزيادة عدم الاستقرار الدولي، من خلال سياسات تؤدي إلى إضعاف التحالفات التقليدية مثل حلف الناتو، مما يخلق فراغاً قيادياً يمكن أن يزيد من التنافس الدولي في المنطقة، مع استمرار سياسة "الفوضى الخلاقة"، التي تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة بشكل يمنع قيام قوى إقليمية منافسة، تحت غطاء من الشعارات مثل مكافحة الإرهاب أو الإصلاحات ..
ومن الواضح أن ترامب يعمل على نظرية "إغراق المنطقة"، فهو يطلق العنان للفوضى عبر تصريحات متضاربة وقرارات مذهلة، ثم يلتوى منتظراً أن ينهار العالم تحت وطأة اللا يقين الذي يسببه، وهذه الاستراتيجية العميقة المريبة تذكرنا بمقولة الفيلسوف نيتشه: "إذا حدقت طويلاً في الهاوية، فإن الهاوية ستحدق فيك أيضاً"، ولكن يبدو أن ترامب يحدق في المرآة فقط! سخرية بلا حكمة.
وعلى سبيل الأمثلة لا الحصر من إنجازات ترامب في صناعة الفوضى، إبرام صفقات أسلحة بقيمة 6 مليارات دولار لإسرائيل، وتهديدات متكررة لدول منطقة الشرق الأوسط، صاحبها غضب عربي ومحاولات خليجية لإعادة النظر في التحالفات الدفاعية، كما أن أوروبا لم تسلم من صدمات ترامب بمطالبة حلف الناتو برفع الإنفاق الدفاعي إلى 5%، مما تسبب في قلق أوروبي كبير ومحاولة تسريع خطط الاستقلال الأمني، أما كوريا الشمالية فبدأت استراتيجية ترامب بتهديداتها بالنار والغضب، مما خلق حالة من اللعب على حافة الهاوية (brinkmanship) ورفع مخاطر نشوب صراع عسكري، ثم تحول فجأة إلى الدبلوماسية المباشرة على أعلى مستوى، وهذا التحول المفاجئ هو جوهر صناعة الفوضى، حيث يُحدث صدمة وحيرة للنظام الدولي القائم، وعلى ذلك فإن سياسات ترامب لم تؤسس لإطار دائم يمكنه الصمود على مختلف المحاور السياسية ..
وكثيراً ما كانت عبارات وتلميحات السخرية والتهكم من أسلحة ترامب التي يجيد استخدامها في فن الإزدراء الدولي، وحسب التحليل النفسي، فإن الميل للسخرية والتهكم ينبع من شعور عميقبالنقص والخوف من الانكشاف، وترامب بسخريته اللاذعة من الحلفاء والخصوم على حد سواء، يبدو وكأنه يختبئ وراء قناع التهور لإخفاء عقد النقص والضعف التي يعاني منها، والعالم ألفرد أدلر (Alfred Adler) يسمي هذه الظاهرة "عقدة التفوق" (superiority complex) - حيث يتظاهر الفرد بالتفوق لإخفاء شعوره الداخلي بالنقص ..
كما أنه بدلاً من استخدام الدبلوماسية التقليدية، يعتمد ترامب على لغة التهديد والوعيد كبديل للذكاء، كما حدث مع كولومبيا عندما هدد بفرض رسوم بنسبة 50% على صادراتها حتى ترضخ لمطالبه، وهذه الاستراتيجية العبقرية تذكرنا بتأثير دانينغ-كروجر (Dunning - Kruger effect)، حيث يميل غير الأكفاء والموهومون بالتفوق إلى المبالغة في تقدير قدراتهم على التنافس والمعرفة، فلماذا تتعب في التفاوض عندما يمكنك الصراخ والفوضى؟ ..
ومن الكوميديا السوداء نجد أن الخليج العربي يتأرجح بسياسات ترامب ما بين صديق مفترض وبين ضحية محتملة، فيصور ترامب نفسه كصديق للخليج، بينما هناك تحليلات تشير إلى أن قاعدته الانتخابية تضمر عداءً شديداً للسعودية والخليج العربي، إنها معادلة ترامبية كلاسيكية: "أنا أحميكم اليوم وأهاجمكم غداً"، والخليجيون يتعاملون بسذاجة مع الإدارة الأمريكية وكأنها جمعية خيرية، بينما هي في الحقيقة مؤسسة للابتزاز المنظم ..
وتبلغ سخافة السياسة الترامبية ذروتها في تعامله مع القضية الفلسطينية، فمن ناحية يواصل تزويد إسرائيل بأسلحة هجومية بقيمة 6 مليارات دولار، ومن ناحية أخرى يقترح تحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"! هذه الخطة "العبقرية" تتجاهل حقيقة أن سكان غزة لا يريدون مغادرة أرضهم، وتتجاهل أيضاً أن هذه الخطة قد تنسف جميع اتفاقيات السلام الهشة في المنطقة ..
ومن تناقضات السياسة الترامبية في الشرق الأوسط، موقفها الرسمي من محاربة الإرهاب بدعم أنشطة عسكرية إسرائيلية تخرق القانون الدولي، وتصعد من تطور الإرهاب إلى إرهاب دولة، وكذلك موقفها الرسمي من حماية الحلفاء بينما تهدد السعودية بقانون جاستا (JASTA)، في تناقض ترامبي عبقري ينتج عنه مبدأ الحماية مقابل الابتزاز المالي، وفي وساطتها للسلام تصرح السياسات الترامبية بخطط لإقرار السلام، بينما السلام عندهم فقط عبر التهجير القسري للفلسطينيين ..
لقد نجح ترامب في تحويل الحلفاء التقليديين إلى ضحايا لفوضاه المنظمة، فلقد طالب القادة الأوروبيين بزيادة الإنفاق العسكري في حلف الناتو بشكل مهول مما يصب في الخزينة الأمريكية، وكأن الناتو تحول إلى نادٍ أمريكي لابتزاز الحلفاء، والرد الأوروبي كان متوقعاً؛ بتسريع خطط الاستقلال الأمني وزيادة الميزانية الدفاعية إلى 800 مليار يورو، فلقد نجح ترامب حيث فشل بوتين - في توحيد أوروبا ضد أمريكا! ..
وفي التحليل النهائي، تُمثِّل تصريحات توم براك، أكثر من مجرد آراء دبلوماسية عابرة؛ فهي تعبيرٌ صارخ عن رؤية استراتيجية أمريكية أوسع تقوم على الواقعية القاسية التي تضع المصالح الضيقة فوق كل اعتبار، حتى لو كان الثمن هو زعزعة الاستقرار الإقليمي وانتهاك حقوق الشعوب، وهذه الرؤية لا تنفصل عن الظاهرة الترامبية التي تمثل بدورها حالةً مرضية في الجسد السياسي العالمي، تجسيداً للغباء المتعجرف والفوضى الممنهجة التي ترفع السخرية إلى مستوى سلاح استراتيجي.
وفي هذا الإطار، تتحول "الترامبية" من مجرد سياسة إلى اضطراب نفسي جماعي انتقل من فرد إلى أمة عظيمة، وبالتالي إلى العالم أجمع، وكما كان فرويد ليرى في سخرية ترامب وسيلة للتنفيس عن العدوان المكبوت، فإن سقراط لَاعتبره مثالاً حياً على "الجهل المتبجح" الذي حذر منه منذ قرون، وهذا الاضطراب يتجلى في النفعية الانتقائية التي تتعامل مع الأزمات، فتعتمد حلول في سياق وترفض نفس الحلول في سياقٍ آخر وفقاً لحسابات القوة والمصلحة المباشرة، دون مبادئ ثابتة أو رؤية أخلاقية.
كما أن النظرة الاستعمارية المتجذرة التي تعامل المنطقة كمجال حيوي (Lebensraum) للمصالح الغربية، ومسرحاً للصراع بين القوى الكبرى، تُكمِّلها ثقافة الترامبية القائمة على التلاعب الاستراتيجي الوهمي، الذي لا يقدِّر كلفة الدماء والأموال والكرامة الإنسانية، والدرس الأهم الذي يبدو أن ترامب لم يستوعبه بعد هو أن الدبلوماسية لا يمكن اختزالها في صفقات عقارية، ولا يمكن استبدال الذكاء والحكمة بالتهديد والسخرية.
وفي النهاية، ما يفعله ترامب وتجسده تصريحات ممثليه مثل براك ليس مجرد هراء سياسي عابر، بل هو تلاعب محسوب يعتمد على صناعة واقع وهمي، والسؤال المصيري الذي يظل مطروحاً هو: هل سينتبه العالم إلى هذه الكوميديا السوداء قبل أن تتحول إلى مأساة دموية لا رجعةفيها؟
------------------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش







