24 - 09 - 2025

حوار مع الفنانة والأديبة والمترجمة إيزابيل كمال: الترجمة الأقرب لقلبي

حوار مع الفنانة والأديبة والمترجمة إيزابيل كمال: الترجمة الأقرب لقلبي

 إيزابيل كمال فنانة متعددة المواهب.. برزت في عدة مجالات؛ فهي في كل مجال تحسبها من الرواد والمبدعين، فهي الفنانة: ممثلة السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، وهي الأديبة التي كتبت الشعر والنثر وأدب الأطفال، كما ترجمت عيون الأدب العالمي.. هي عنيدة وصلبة هزمت العقبات التي واجهت في مشوارها، وانتصرت في كل محطة من محطات حياتها.. ولها منجز يصعب الإلمام به في مقال أو حوار.. 

   التقيناها وهرعنا إلى دوحتها المليئة بالورود والأزهار والأشجار الكثيفة حيث تهب النسائم إلى هذه الدوحة فتضفي على المكان البهجة والسرور، وكنت في غاية السعادة عندما عرضت عليها إجراء هذا الحوار فوافقت على الفور دون تسويف، فهي إنسانة بسيطة جدا.. تتبسط مع محدثها في تواضع جم، وكان هذا الحوار الذي عرجنا فيه عبر محطات حياتها، فتحدثنا في موضوعات شتى، من النشأة في صعيد، فهي الطفلة الوحيدة لوالديها وقد اعتنوا بها وحببوا إليها منذ طفولتها وشبابها حب القراءة والثقافة والاطلاع.. ثم تحدثنا عن رحلتها مع الإبداع الذي تنوع عبر مسيرتها، فأحبت الرسم والتمثيل والموسيقى والشعر، الذي أثرى تجربتها فاحتلت مكانة في كل المجالات عملت بها.. كما حدثتنا عن تجربتها مع الترجمة وخصوصا مع الشاعر الإنجليزي "روديادر كيبلنج" لم يكن معروفاً في الثقافة العربية قبل ترجمة أعمال له إلا كشاعر حيث تجنب المترجمون ترجمة كتبه السردية لصعوبتها البالغة، ثم حدثتنا عن تجربتها الشعرية وتجربتها مع أدب الأطفال..

* حدثينا عن النشأة وكيف كان لها الأثر في حياتك فيما بعد؟

- نشأت في الجنوب في مدينة طهطا التابعة لمحافظة سوهاج، وعلى عكس غيري من الأطفال أتذكر أنني كنت سعيدة جداً بالذهاب للمدرسة، وكانت والدتي قد علمتني القراءة والحساب قبل ذلك، فلم أجد صعوبة مع التعلم، بل كنت أحب كتبي وأذهب إلى المكتبة لقراءة القصص والروايات والكتب المبسطة الأخرى. 

  كنت طفلة وحيدة، ومثلت المدرسة لي وجود أطفال في سنى، أتكلم وألعب معهم، لذلك أحببت المدرسة جداً، كانت لي بيتاً كبيراً ممتلئا بالأطفال. 

    كما كانت هذه الوحدة بعد ذلك سبب تعلقي بالقراءة هواية يمكنك أن تمارسها بمفردك وكذلك الرسم. وبعدما انتهيت من التعليم الابتدائي التحقت بالمدرسة الوحيدة للبنات في المدينة وقتها ـ وكانت تضم التعليم الإعدادي والثانوي العام وكانت بها مكتبة كبيرة. كنت أستعير الروايات وبعد الانتهاء من واجباتي المدرسية أضعها وسط كتاب مدرسي كبير حتى يبدو لأفراد الأسرة أننى أستذكر دروسي. وكان لدينا مدرسون مثقفون خاصة مدرسي اللغة العربية كنت أتناقش معهم فيما يغمض على فهمى مما قرأته. بدأت أكتب قصائد عندما أنظر إليها الآن أضحك على سذاجتها، لكن المدرسين شجعوني على المزيد من القراءة والكتابة.

*كيف بدأت رحلتك مع الفن ومع الإبداع ومع الترجمة؟

- بدأ كذلك يظهر حبى للفنون فكنت أرسم للفصل كله، بداية من التعليم الابتدائي، وأعزف على ما يتاح من أدوات موسيقية بسيطة في الطابور المدرسي والحصص التي يغيب فيها المدرسون.

  بدأت كذلك أشارك في الأعمال المسرحية في مركز الشباب والمدرسة، وكنت أحب التمثيل جداً والرسم والقراءة، وعندما التحقت بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية في سوهاج- وكانت تتبع جامعة اسيوط الآن صارت جامعة مستقلة- عرفت طريقي إلى قصر الثقافة، وشاركت في الفرقة المسرحية، وكانت عروضنا تأتى إلى القاهرة لتعرض على مسرح السامر في مهرجان المئة ليلة.

 بعد انتهائي من امتحانات الليسانس لم أنتظر النتيجة بل سافرت إلى القاهرة وأخذت أستعد لامتحانات القبول في معهد الفنون المسرحية... كنت أنوى الالتحاق بقسم التمثيل بالطبع لكن للأسف تعرفت على بعض الأشخاص الذين استطاعوا إقناعي بالالتحاق بقسم النقد!

    الآن لست أدرى هل كان سوء اختيار منى أم قضاء الله وقدره؟ فبسبب بعض الأشخاص أيضاً لم أكمل مسيرتي في المعهد! لكني على أي حال بتواتر المشاركات في المسرح وغيره حصلت على عضوية نقابة المهن التمثيلية وعُينت ممثلة في المسرح. 

*وكيف وفقت بين عملك في هذه المجالات هل طغى مجال على مجال آخر؟

- لم يمثل لي العمل بين التمثيل والترجمة مشكلة، فالتمثيل حتى بالنسبة للنجوم الكبار لا يستغرق منهم طول السنة، لذلك كان لدىّ الكثير من الوقت بين عمل فنى وآخر أن أنكب على كتاب أترجمه.

  أنا أؤمن بالله وبتصاريف القدر لكن بداخلي عدم رضا عما حققته في التمثيل من إنجاز بسيط رغم اعتراف كبار المخرجين بموهبتي الجيدة، لكن الحمد لله اليوم الكثيرون ممن حققوا باعاً طويلاً من النجاح والانتشار وحصلوا على فرص لا أستطيع أن أقارن نفسى بهم، تم استبعادهم وانحسار الأضواء عنهم، وصاروا يتجهون لأى عمل يقتاتون منه.. الوسط الفني قاس لا يستطيع أحد أن يراهن على معرفة كيف تسير فيه الأمور.. على أي حال توقفت عن التمثيل برغبتي التامة رفضاً للأدوار التي لا تظهر موهبتي وبالتالي لا تدر عائداً للعيش فلا هي فن ولا هي كسب مادى والوقت أثمن من أن أضيعه في عبث. 

   أنا حتى النصوص المسرحية التي كتبتها والتي أزعم أنها متفردة نامت في أدراج المديرين بعد موافقة لجان القراءة عليها! حتى أن أحدهم قال لي إن مسرحي لا ينتج عملاً لكاتب مبتديء ! في الوقت الذى أنتج لي القطاع الخاص في رأس البر وقت كان هناك مسرح برأس البر قبل كلمته الميمونة بسنوات.ـ وكيف لشخص حاصل على جائزة الدولة في الآداب وله مطبوعات تزيد وقت كلمته الميمونة عن الثلاثين كتاب أن يكون كاتبا مبتدئا!! 

   لذلك توقفت عن كتابة المسرح، لأنى أعرف أن طرقهم مسدودة وحصرية على أصحاب الحظ السعيد في وقت تهدم فيه المسارح ويقل عدد قاعات العرض على مستوى المحافظات جميعاً بما لا يتناسب مع عدد السكان لكن هذا ليس شأني، حيث أننى لا أملك له تبديلاً مجرد إبداء رأي في بعض الأزمات التي تسحق الوطن قبل أن تسحق المواطن.

عملت بالترجمة وترجمت العديد من الأعمال عن اللغة الإنجليزية.. كيف كنت تختارين أعمالك؟

- عودة للترجمة التي مثلت خطاً رئيسياً في مسيرتي المهنية، وهنا يجب أن أتوقف عند عدد من المحطات. بداية عملي بالترجمة الاحترافية كانت في البرنامج الثقافي، حيث قمت بترجمة الأعمال المسرحية، وأحياناً إعداد نص تمثيلي عن قصة قصيرة، أما أول كتاب لي فقد صدر عن سلسلة "آفاق الترجمة" التابعة لهيئة قصور الثقافة، وقد حوى بين ضفتيه روايتين قصيرتين "عدوى اللدود"، و"أحلى سنين" للكاتبة التي أحبها (ويللا كاثر) والتي ترجمت لها بعد ذلك أكثر من كتاب كان آخرها "واحد من أولادنا" الذى صدر أيضاً عن نفس السلسلة التي أصبح اسمها "آفاق عالمية" في الهيئة العامة لقصور الثقافة.

كانت هناك أيضاً (فرجينيا وولف)، وكانت حقاً صعبة وعلىّ أن أقرأ الصفحة كلها جيداً عدة مرات قبل أن أقرر كيف سأبدأ.. لكنى صبورة ودؤوبة.. وأراجع الترجمة مرات عديدة قبل أن أسلمها بأكمل صورة. 

* كانت له محطة في ترجمة أعمال الشاعر الإنجليزي (روديارد كبلينج) المعروف بكرهه الشديد للشرق حدثيني عن هذه التجربة وكيف أثمرت؟

- كذلك من أهم محطات الترجمة كتب (روديادر كيبلنج) لم يكن معروفاً في الثقافة العربية قبل ترجمتي إلا كشاعر حيث تجنب المترجمون ترجمة كتبه السردية لصعوبتها البالغة، وقد حدث حين بدأت في ترجمة كتابه "مختارات من أجمل قصص كيبلنج". وكان أستاذنا الدكتور محمد عناني -رحمه الله- قد شرع أيضاً في ترجمة "كيم" وحسب قوله أن هذا الكتاب طلب منه ترجمته في عام 1965 وبقى في الدرج حتى ذلك الوقت ربما هي أقدار فأنا من مؤيدي نظرية (باختين) التي يقول فيها أن كتاباً بعينه سيظهر للنور في وقت بعينه.

*ألم تخشين الولوج إلى هذه المحطة ورد الفعل الشديد إزاءها؟

- بالطبع عرفت أثناء ترجمتي للكتاب وقراءتي عن (كيبلنج) كيف كان شخصاً شوفينياً ذو نزعة استعمارية يثير المتاعب أينما حل، ولكنى أعتقد أن هذه السمة لم تظهر في الكتب التي ترجمتها له فكتابي "الغابة" تعد من كلاسيكيات أدب الطفل في العالم، كما أن كتاب "مختارات من أجمل قصص كيبلنج" تم انتقاء مادته بواسطة (سومرست موم) الذى قال في المقدمة: "أن النقاد الآن كما  المعاصرون لكيبلنج في وقت صدور الكتاب قالوا أنهم لا يفهمون كتابة كيبلنج". حقاً.. لقد تصديت لعمل صعب بالفعل!! لكن حتى الكتب ليس بالضرورة من يحظى بالضوء والزفة الكاذبة والحفلات والقراءات والندوات هنا وهناك يكون أفضل من كتاب جيد ورائع تعب صانعه في إنجازه سنوات ثم يخرج في الظلام!

*حدثينا عن تجربتك في أدب الأطفال؟

- وثمة محطة مهمة في كتابتي هي الكتابة للطفل ساهمت كثيراً في مطبوعات مثل مجلة "قطر الندى"، و"العربي الصغير" ككاتبة وكمترجمة أيضاً. الكتابة والترجمة للطفل ممتعة جداً. 

   وصدر لي في هذا الصدد كتاب "حكاية الريشة ويشا"؛ وهو مجموعة قصص من تأليفي في سلسلة كتاب "قطر الندى"، كما صدرت لي رواية خيال علمي بعنوان "كوكب الطيبين" في إصدارات دار الهلال، وعلى خشبة المسرح مسرحية "وادى الحب" التي تم إنتاجها على مسارح كثيرة بعد ذلك حتى دون معرفتي.. لدىّ كثير من المخطوطات قصص ومسرحيات لم تنشر بعد.

لك منجز شعري أثمر عن عديد من الدواوين حديثنا عن هذه التجربة وما الموضوعات التي تعرضت لها خلال مشوارك؟

- لم يبق إلا الشعر وأعترف أننى لست غزيرة الإنتاج فلم يصدر لي سوى ديوانين على فترات متباعدة، وهما "دراما العتبات" في سلاسل هيئة قصور الثقافة، و"خدش الروح" في الهيئة العامة للكتاب. على الرغم من أن أدراجي تمتلئ بالقصائد التي لم أجمعها بعد وأعمل على نشرها في دواوين جديدة. وأتمنى أن أفعل ذلك قريباً.

  أما بالنسبة للترجمة فهي الأقرب إلى قلبي أعتبرها نوعا من القراءة الممتعة والمساهمة في العمل الثقافي بضم كتاب جديد للغتنا العربية، أترجم فقط ما أحبه أستمتع به كقارئة كثيرون نصحوني مثلا بالترجمة العلمية أو القانونية أو الطبية لكن يكفى ما في الحياة من منغصات لا أظن أن بوسعي أزيدها على نفسى بترجمة كتب لا تجد هوى في قلبي ولا صدى في نفسى رغم أن ترجمة الأدب هي الأصعب عليك أن تستخدم كل وعيك ومداركك للغور في أعماق كاتب لتعرف ماذا يقصد بدقة من كل جملة خاصة مع تقلص ميزانيات دور النشر الحكومية لم يعد لديها ما يكفى لشراء حقوق طبع ونشر كتب حديثة، وأصبحنا نطوف بين العقود بل القرون القديمة لنعثر على كتاب جيد لم يعد له حقوق، والحقيقة أن ذلك النوع من الترجمة على الرغم من متعته لكن يمثل صعوبة، فهناك كلمات لم تعد تستخدم، وكلمات وتعبيرات لا تجد معناها في القواميس، وهناك مؤلفون ينحتون في اللغة مثل كيبلنج، لذلك تستغرق ترجمة كتاب واحد ما يعادل ثلاثة كتب مكتوبة باللغة المعاصرة البسيطة.

* نالت إيزابيل كمال العديد من الجوائز ما وقع الجوائز على المبدع؟

- حصلت على جائزة الدولة عن كتاب القصص التي يحكيها الأطفال، وكان هذا أسهل كتاب ترجمته مكتوب بلغة إنجليزية بسيطة معاصرة، ويتكلم عن أهمية السرد والحكاية في حياة الطفل دراسة ميدانية أدبية تربوية، ولم يستغرق منى وقتاً طويلاً ففي ترجمته أو مراجعته، لكنه حصل على جائزة، بينما الكتب الثقيلة الوعرة لم يلتفت إليها أحد ربما بسبب أن الجوائز تقتصر على الكتب الحديثة الإصدار الحاصلة على حقوق الطبع والنشر، وتستبعد الكتب التي صارت ملكية عامة.

*روشتة لشباب الفنانين والأدباء والمترجمين؟

- المزيد من التعب مع مهنة الكتابة والترجمة تجعلني أحجم عن الكتابة، فدور النشر الحكومية تتعامل مع الكم وليس الكيف.. بمعنى أنها استنت قوانين غريبة بالنشر حسب الدور، وقد يأتي دورك بعد ثلاث سنوات ولا يحسبون لك أنهم لم تنشر منذ خمسة عشر عاماً ـ مثلاً ـ أو أنك نشرت محتوى مختلفاً في سلسلة مختلفة! أما دور النشر الخاصة فتسعى للربح والنشر فيها بأموالك الخاصة إن كان لديك أموال! وقتها لا يهم أن تنشر كل يوم كتاباً. أما بالنسبة للترجمة فينطبق عليها نفس الكلام بالنسبة لدور النشر التابعة لوزارة الثقافة لكن دور النشر الخاصة فلها شلليتها ولا تفتح أبوابها بسهولة للغريب .. لا يهم ما يقدمه من مادة ولا يهم تاريخه هم لا يعرفونك.. هم قادمون من الفضاء ولم يسمعوا عنك..

     قالت لي مسئولة التعاقد مع إحدى دور النشر الخاصة "أنت بالنسبة لنا جديدة هذا أول تعامل بيننا"، كان هذا ردها علىّ عندما اعترضت على الأجر الذى حددته لي وهو ما يساوى أجر الترجمة في الثمانينيات من القرن الماضي! لا أدرى هل هذا مضحك أم مبكى؟! فالكل يعرف ما تستغرقه الترجمة من وقت.. بعض الكتب استغرقت منى سنة كاملة وبعضها استغرق سنتين! سنوات من العمل الشاق وما يرادفه من مشاكل العنق والفقرات والعيون والحبس الاجتماعي والعزلة بين النص والقواميس.. في الدولة العباسية كانت الترجمة توزن بالذهب! 

أنا أحب عملي كمترجمة ولن أكف عن المحاولة، أنا وكل رفاق المهنة، حتى تأخذ الترجمة حقها في النور والنشر ويكافأ المترجم عن عمله مكافأة مرضية تتناسب مع قيمة العملة الآن وليس بأجور السبعينيات والثمانينيات.

-------------------------

حوار: أبو الحسن الجمال 

– كاتب ومؤرخ مصري