من منا لا يحن الي الماضي؟ أو يتمني لو كان يعيش في حقبة زمنية ماضية؟ ويري أن الماضي كان أفضل من الحاضر الذي نعيشه و يتردد كثيرًا على ألسنة الناس أن "الحياة في الماضي كانت أجمل وأبسط" وهذه عبارة مألوفة في المجالس العائلية واللقاءات اليومية؛ ولكن هل فعلا الماضي كان أفضل .. هناك من يجزم بذلك ولا يريد حتي مناقشته في هذا الاعتقاد .
وقد يعكس هذا شعورًا دفينًا بالحنين للماضي؛ أو ما يُعرف بـ"النوستالجيا"، حيث تميل الذاكرة إلى انتقاء الصور المضيئة من الماضي وتجاهل ما كان يعتريه من صعوبات ، و لكن يبقى السؤال: هل كانت الحياة فعلًا أكثر راحة وسهولة مما هي عليه اليوم، أم أن الحنين وحده هو ما يلون صورة الماضي؟
في اعتقادي أن الحياة في الماضي كانت محكومة بظروف أكثر تجانسًا، حيث تشابهت مستويات المعيشة بين معظم الأسر، فقلَّت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية ، و هذه البيئة المتقاربة ساهمت في تعزيز الرضا الداخلي، إذ لم يكن هناك مجال واسع للمقارنة بين من يملك الكثير ومن لا يملك.
كما أن العلاقات الاجتماعية أيضًا كانت أمتن، والجيران والعائلة الكبيرة مثّلوا شبكة دعم لا غنى عنها.
وكما يوضح عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم في دراساته عن التضامن الاجتماعي، فإن "التقارب في الظروف الاقتصادية والاجتماعية يولّد روابط إنسانية قوية تُشعر الأفراد بالأمان والاطمئنان".
ورغم أن صعوبات الماضي كانت حاضرة ــ من مشقة العمل اليدوي و انخفاض المستوى الاقتصادي ــ فإن بساطة التطلعات قللت من حدة تلك المعاناة، وجعلت الناس أكثر قدرة على التكيف والرضا عن معيشتهم .
أما اليوم، فقد تغيّرت الصورة جذريًا. الانفتاح الإعلامي والتطور التكنولوجي جعلا الفرد على تماس دائم مع أنماط حياة مختلفة وأكثر رفاهية، الأمر الذي خلق فجوة واسعة بين الإمكانات المتاحة والطموحات وخلق تطلعات لدي الأفراد بعضها مشروع وفي بعض الأحيان غير مشروع ولا تناسب إمكانياتهم مما خلق صراعات وصعوبات تظهر في زيادة معدلات الجريمة وأيضا زيادة معدلات الهروب من الواقع واللجوء الي تغييب العقل ، وقد لعبت الدراما والإعلانات دورًا بارزًا في تكريس هذه التطلعات وخلق أنماط استهلاكية جديدة علي المجتمع؛ بل و رفعت سقف التوقعات لدى الناس، وأوجدت طموحات مادية لم تكن موجودة في السابق، وهو ما أدى بدوره إلى تفاقم الضغوط النفسية والاجتماعية والشعور بعدم الرضا عن الحياة لدي البعض .
ايضا الحنين إلى الماضي يمنح الناس قدرًا من الأمان النفسي، حيث كان الانتماء للأسرة الكبيرة مصدر القوة والدعم. أما الحاضر، فنجد أن الأشخاص أكثر استقلالية عن أسرهم بدافع الحرية الشخصية؛ وهذه الحرية ساهمت في انعزال الأشخاص؛ وايضًا ضغوط العمل لفترات طويلة لتلبية الاحتياجات التي لا تنتهي خلق فجوة في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد علي مختلف المستويات مما زاد من الضغوط النفسية.
وهناك الكثير من الدراسات العلمية التي تؤكد على أن تراجع الروابط الاجتماعية في المجتمعات الحديثة أدى إلى ارتفاع نسب الشعور بالوحدة، ما انعكس على الصحة النفسية سلبًا .
يمكن القول إذن إن الماضي لم يكن مثاليًا كما نتخيله، لكنه كان أكثر اتزانًا وبساطة. أما الحاضر، فيوفر إمكانات هائلة للتقدم والراحة المادية، لكنه مشحون بتفاوتات وضغوط متزايدة.
الحنين إلى الماضي ليس وهمًا بحتًا، بل هو تعبير عن توق إنساني إلى الأمان الاجتماعي والنفسي، حتى وإن كانت الظروف المادية أصعب. الراحة الحقيقية لا ترتبط بزمن معين، بل بكيفية إدارة الإنسان لطموحاته وتطلعاته، وقدرته على تحقيق توازن بين ما يحلم به وما يملكه بالفعل.
-------------------------------
بقلم: سحر الببلاوي