في لحظة تاريخية تتقاطع فيها التحديات الإقليمية مع طموحات الأمة في التنمية والازدهار، تتجلى ضرورة أن تتحدث الدولة المدنية والعسكرية بصوت واحد عن مشروع للأمن القومي يرتكز على العقلانية والشرعية والوطنية. الحديث عن الردع الوطني ليس ترفًا سياسيًا ولا استعراضًا خطابياً، بل هو التزام عملي بحماية الشعب وتأمين شروط التنمية والكرامة لكل مصري ومصرية. الردع الفاعل هو الذي يجعل السلام اختيارًا مستدامًا لا حلًا هشًا قابلًا للانكسار، وهو الذي يجعل من قدرة الدولة أداة توازن تمنع التفلت وتحمي مستقبل الأجيال.
القدرة الوطنية الحقيقية لا تُقاس بمجرد أرقام أو منظومات تسليحية، بل تقاس بمدى تكامل منظومة الدولة: جيش قادر، أجهزة استخبارات حريصة، اقتصاد مرن، ودبلوماسية حكيمة تفرض الكلفة على من يفكر في الاعتداء. عندما ترتبط القوة بالشرعية والهدف الوطني الواضح، تتحول الاستعدادات العسكرية إلى رادع فعلي لا مجرد تهديد صوتي. وحدة هذا النظام المتكامل تمنح الدولة هامش قرار أوسع، وتُصعّب على الخصم حسابات المغامرة.
الجاهزية العسكرية والتدريب المستدام يمثلان العمود الفقري لأي استراتيجية ردع. قوات محترفة، مُدربة على سيناريوهات متعددة، ومدعومة بسلاسل لوجستية مرنة، قادرة على التعبئة السريعة وقت الحاجة، تُحفظ الوطن من الأخطار وتُظهر استعداد الدولة للدفاع عن سيادتها. لكن ساحات التنافس اليوم لم تعد محصورة في الأرض والبحر والجو؛ فالمعارك تتسع لتشمل الفضاء السيبراني، وحلبة المعلومات، والاقتصاد. لذا فإن تعزيز القدرات الاستخباراتية والسيبرانية والقدرات الاقتصادية لمواجهة التخريب والاختراق والضغوط الاقتصادية أمر لا يقل أهمية عن تعزيز المعسكرات الميدانية.
الأمن الاقتصادي عنصر لا يمكن فصله عن الاستراتيجية الدفاعية. اقتصاد قوي ومقاوم للصدمات، احتياطيات نقدية مرنة، وسلاسل إمداد محمية تُقلل من هشاشة الدولة وترفع كلفة التصعيد على أي طرف يسعى للضغط. بناء صناعة وطنية متقدمة، ولا سيما في قطاعي الدفاع والتقنية، يمنح البلاد استقلالية استراتيجية حقيقية ويقلل الاعتماد على المكونات الأجنبية الحساسة. كذلك، الاستثمار في البحث والتطوير يجعل من مصر فاعلاً إنتاجياً قادراً على التحول إلى مزود تقني وصناعي إقليمي، ما يدعم مركزية القرار الوطني ويمنح الاقتصاد أدوات حماية إضافية.
لا غنى للدبلوماسية عن مثل هذه القوة المتوازنة. الدبلوماسية الذكية تكمّل القدرة العسكرية والاقتصادية عبر بناء تحالفات استراتيجية تقوم على مصالح واضحة ومتبادلة، وتحريك المواقف الدولية لصالح المبادئ الوطنية والشرعية. في عالم مترابط، تصبح القدرة على حشد الدعم الدولي أو على الأقل تحييد موقف الأطراف المؤثرة أداة مهمة لخفض مخاطر التصعيد، وتحويل التوتر إلى مساحات تفاهم أو على الأقل إلى عزلة سياسية لمن يسعى للإضرار بالأمن القومي.
الشرعية الداخلية والخارجية عنصران حيويان لأي قرار ردعي. تماسك المجتمع خلف مؤسساته السياسية والعسكرية، والتوافق على أهداف واضحة تحظى بقبول شعبي واسع، يمنح أي تحرك غطاءً أخلاقيًا واستراتيجيًا يقلل من مخاطر التداعيات. المؤسسات المدنية القوية والرقابية تضمن وضوح الأهداف وحدود استخدام القوة، وتحمي الدولة من الانزلاق إلى مغامرات قد تكلف الوطن كثيرًا. الالتزام بالقانون الدولي واحترام قواعده يُعزز موقف الدولة ويزيد فرصها في كسب تأييد أو تفهم المجتمع الدولي.
الإعلام وإدارة المعلومة عنصران لا يقلان أهمية عن القدرات العسكرية نفسها. التوضيح الدائم والشفاف للرأي العام عن أسباب السياسات والنتائج المرجوة يخلق مناعة وطنية أمام محاولات التشويش والتشويه. مواجهة الحملات المضللة تتطلب خططًا إعلامية وسيبرانية متقدمة، وشرحًا متدرجًا ومدروسًا يضمن تماسك الجبهة الداخلية ويُضعف محاولات إثارة الفتن أو نشر الشائعات التي تستهدف النفوس والمعنويات.
دور القوى الشعبية والعمالية محوري في منظومة الردع. الأمن ليس مهمة مؤسسة بعينها، بل هو مشروع مجتمع متكامل تتضافر فيه كل الفئات لصون الوطن. كقادة عمال وأطراف اجتماعية، علينا أن نؤكد الربط بين الأمن والعدالة الاجتماعية: حماية العمال وتحسين مستوى المعيشة وتوفير فرص العمل والتعليم والتدريب تقوّي النسيج الاجتماعي وتقلّل من نقاط الضعف التي قد يستغلها الخصم. دولة قوية اقتصادية واجتماعية تكون أقل عرضة للاستنزاف، وأكثر قدرة على الصمود في وجه الضغوط.
عمليًا، تستلزم استراتيجية الردع باقة إجراءات فورية ومتوسطة وطويلة الأمد. على المدى القصير يجب تأمين البِنى التحتية الحيوية، مراجعة جاهزية الإمداد واللوجستيات، وتعزيز شبكات الاستخبارات السيبرانية والتنسيق بين الأجهزة الأمنية والمدنية. على المدى المتوسط ينبغي توسيع الشراكات الصناعية المحلية والإقليمية، تطوير وحدات احتياط احترافية، وتعزيز التعاون الاستخباري مع دول وشركاء متقاربين في المصالح. وعلى المدى الطويل يحتاج الأمر إلى تحويل قطاع صناعي قادر على التصدير، واستراتيجية تعليمية وتدريبية تواكب متطلبات الاقتصاد المعرفي والتقني، وبناء دبلوماسية فعّالة تضمن مصالح الأمة في المحافل الدولية.
ولابد من تأكيد مبدأ أساسي: القوة التي لا تملك هدفًا واضحًا أو غطاءً سياسيًا واجتماعيًا يمكن أن تصبح عبئًا. التاريخ يعج بأمثلة عن نزاعات أضعفت دولًا وأفشت معاناة شعوبها. لذلك يجب أن يكون اللجوء إلى القوة دائماً قرارًا متروياً، يخضع للمساءلة والحدود القانونية، ويكون جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف للحفاظ على الوطن، وليس المغامرة به.
في ختام هذا العرض الواقعي المتوازن، أؤكد أن الردع الوطني الناجح هو الذي يوازن بين الحزم والحكمة، بين القوة والشرعية، وبين الدفاع والتنمية. إنه ردع يجعل من السلام خيارًا ذا ثمن وجدارة، ويحول الاستعداد إلى مانع يفكر به الآخر قبل أن يفكر بنا. على قادتنا وجميع فئات شعبنا أن يعملوا معًا لبناء قدرة وطنية موثوقة، متوازنة، ومؤهلة لحماية مصر وتمكين شعبها من العيش بكرامة وأمان. هذا هو الردع الذي نخاطب به الأجيال ونرسم به مستقبل الأمة — قوي، رشيد، ومتماسك.
مع خالص الولاء لمصر وشعبها.
---------------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي
القيادي العمالي والمحلل السياسي