يُسوَّق الاعتراف بدولة فلسطين في الخطاب الدولي كأنه خطوة تاريخية طال انتظارها، وكأنه ثمرة عقود من النضال الفلسطيني ومعاناة شعب تحت الاحتلال. غير أن التمعن في سياق هذا الاعتراف، وتوقيته، ومضمونه، والآثار السياسية المترتبة عليه، يكشف أنه لا يخرج عن كونه جزءًا من مسرحية دولية رديئة الإخراج، تُقدَّم فيها المجازر كخلفية مشهد، وتُرفع فيها راية الاعتراف كديكور لتبرير صمت العالم عن الجريمة.
التوقيت – اعتراف فوق الركام
لا يمكن أن يُفهم الاعتراف بدولة فلسطين في اللحظة الراهنة إلا كإهانة مضاعفة. كيف يُعترف بشيء اسمه "دولة فلسطين" بينما تُباد غزة يوميًا وتُحرق بيوتها فوق رؤوس ساكنيها؟ إن التوقيت هنا ليس محايدًا، بل هو توقيت قاتل: يريد العالم أن يمنح إسرائيل الضوء الأخضر لتكمل حربها، ويمنح نفسه غطاءً أخلاقيًا عبر القول: "ها نحن ندعم الفلسطينيين بالاعتراف". الحقيقة أن الاعتراف وسط الدم لا يواسي الضحية، بل يُستخدم كستار دخان يحجب الرؤية عن الإبادة الممنهجة.
المضمون – دولة بلا روح
ما الذي يعنيه الاعتراف؟ الاعتراف بدولة بلا حدود مرسومة، بلا سيادة على الأرض، بلا عاصمة في القدس، بلا حق عودة للاجئين، هو اعتراف بدولة وهمية. هذه ليست دولة، بل نسخة باهتة من "الكيان الإداري" الذي خططت له إسرائيل منذ اتفاق أوسلو: كانتونات محاصرة، مرتبطة باقتصاد الاحتلال وأمنه، تتحرك فيها سلطة بلا سلطة. الاعتراف بمثل هذا الكيان ليس مكسبًا، بل سرقة لمشروع التحرر الوطني وتفريغه من محتواه التاريخي والسياسي. إنه أشبه بوضع حجر قبر على فكرة فلسطين الكبرى وتحويلها إلى "اسم" تتداوله البيانات الدبلوماسية.
التأثير السياسي – رشوة للتصفية
الاعتراف في صورته الحالية ليس نهاية الصراع، بل أداة لتصفيته. يُراد للفلسطينيين أن يقبلوا به كمنحة، وأن يُجبروا على الدخول في مفاوضات جديدة تُسمى "نهائية"، حيث يُختزل الحق الفلسطيني إلى كيان هزيل. الاعتراف هنا رشوة سياسية: يُعطى الفلسطيني "اسم الدولة" مقابل أن يتنازل عن الأرض، والسيادة، والقدس، وحق العودة. أخطر من ذلك أن الاعتراف قد يتحول إلى ذريعة للدول التي تدّعي دعم فلسطين كي تُغلق الملف: "لقد اعترفنا بدولتكم، الآن انتهت القضية". وهكذا يُختصر تاريخ قرن من النضال والمقاومة في جملة دبلوماسية، بينما تستمر الوقائع على الأرض في التهام ما تبقى من فلسطين.
بين الحقيقة والزيف
الاعتراف بدولة فلسطين يمكن أن يكون خطوة عادلة إذا جاء مقرونًا بوقف العدوان، ورفع الحصار، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها، وإلزامها بالانسحاب الكامل. أما الاعتراف في سياق المجازر، وبلا مضمون حقيقي، فهو ليس دعمًا لفلسطين بل دعم للإبادة بوجه أكثر نعومة. هو محاولة لإقناع الضحية بأن عليها أن تُصدّق الوهم بينما تُسلب حياتها وأرضها. إن السؤال اليوم ليس: هل اعترفت الدول بفلسطين أم لا؟ بل: أي فلسطين يعترفون بها؟ أهي فلسطين التاريخية التي يناضل الشعب لاستعادتها، أم فلسطين "المقيدة" التي تُرسم ككيان مفرغ من المعنى، ليكون شاهدًا على جريمة العصر؟
----------------------
بقلم: محمد الحمامصي