قد يكون الفعل الذي تراه ظُلما هو قمةُ العدل وأنت لا تدري، فمِشرطُ الجراح، الذي يراه الطفل المريض ظُلما فادحا هو في حقيقته من وجهة نظر الأب العدلُ بعينه، والسبب في اختلاف الحكمين على الفعل الواحد، هو اختلافُ النظرةِ إليه، فالطفل المريض، نظر للمِشرط باعتباره آلة، ينجم عنها ألم، بينما نظر إليه الأب باعتباره وسيلة الشفاء والتعافي بعد إرادة الله .
واستنادا لهذا أقول: إنّ النظرات القاصرة للأمور، تجعل كثيرا من العامة، وأحيانا الخاصة، يتسرعون في الحكم على قرارات المسؤولين، وهذا ما عاناه وزير صحة سابق، ظلت ـ لفترة طويلة ـ قصتُه حديث الصحف، حينما أقال بعض مسؤولي وزارته، بعدما رُفعت ضدهم عدة شكاوى، تُثبت فسادهم الإداري، وموالاتهم لذوى النفوذ ضربا بالمصلحة العامة عرض الحائط .
هذه الوقائع، التي تصدى لها ذلك الوزير بكل صرامة، كشفت عن مدى سذاجة غير المُلمِّين بتفاصيل الحدث في تقييم الأمور، بعدما أعلنوا استياءهم من تلك القرارات، ووصفوها باستغلال النفوذ.
وقطعا، هذا هو الغبنُ بعينه، فكما نطالبُ المسؤول، أيا كان موقعه، بإقامة المدينة الفاضلة، يجب أيضا ألا نُسلبه حقه في إثابة الصالح، والأخذ على يد الطالح والمُعوج .
بمعنى أنَّ الإنصاف يقتضي أن نزن الأمور بميزان واحد، فكما نددنا كثيرا بأزمات وزارة الصحة، المُتمثلة في نقص الدواء، وارتفاع سعره، بالإضافة إلى اختفاء لبن الأطفال، وغلق أبواب المستشفيات في وجوه كثير من المرضى لنقص الأسرَّة، وغيرها من المشاكل التي تُعتبر مسئولية الحكومة بأسرها، وليست مسؤولية وزير الصحة وحده، فلابد أيضا أن نُثمّن القرار الجريء لأي مسؤول .
أمَّا النظرة النفعية في تقييم الأمور، فستقف حجر عثرة في طريق الإصلاح، فالحكم على قرار المسؤول لا يكون بالقطعة، بل من خلال مُجمل أعماله، أمّا أن نجعل من أنفسنا قضاة، نحكم على أفعال المسؤولين دون دراسات متأنية، فهذا هو الخطر بعينه؛ لأنَّه يُحدث بلبلة في الشارع، فضلا عن تشويشه على المسؤول وإصابته بالاضطراب؛ لإحساسه بأنّه يعمل تحت ضغط ومُراقبة .
والمعنى، أننا كما ترنو لحاظُنا لدولة العدل، فلابد من احترام قرارات المسؤول، التي تسير جنبا إلى جنب مع العمل الجاد، تاركين نظرة التشاؤم، والنظر إلى نصف الكوب الفارغ !
إننا في مُجتمع يُجيدُ النقد أكثر مما يُجيد العمل، وهنا مكمنُ الخطر، فإذا كان كلُّ الناس يشكو، فمن المشكو في حقه إذن ؟!
إنَّ كثرة الشكاوى صارت شماعة بالية يُعلّق عليها الكسالى أسباب التراخي والبلادة والاستهتار، وغيرها من السلوكيات المُستهجنة، التي لن تقوم لمصر قائمةٌ في ظل سيطرتها على عقيدة ووجدان كثير من العاملين بالهيكل الإداري للدولة .
وإذا كان القاضي لا يستطيع أن يحكم في دعوى حتى يطّلع على وقائعها كلها، فإنَّ إصدارنا الأحكام ليل نهار على قرارات المسؤولين، دون دراسة وتمحيص يُعتبر الطامة الكبرى .
وبنظرة سريعة إلى قصة سيدنا موسى مع الخضر لما ركبا السفينة، التي خرقها الخضر، وقتل الغلام، وأقام الجدار، نتعلم عدم التسرع في إصدار الحكم قبل الإحاطة بالواقع .
لكلِّ ما سبق فإنّ قرار وزير الصحة بإقالة بعض المسؤولين بوزارته ليس عيبا مادام له مُبرراتُه، حتى وإن جاء على غير هوى أصحاب المصالح !
وأخيرا أؤكد أنَّ هذا المقال، يناقش قضية قديمة جديدة، ويؤكد أنَّ رضا الناس جميعا غاية لا تدرك، لهذا فلابد أن يكون لسان حال أي مسؤول يعمل من منطلق ضمير وأخلاق: دع الكلاب تعوي والقافلة تسير !
----------------------------
بقلم: صبري الموجي
ـ مدير تحرير الأهرام