لم يكد صديقي يصف سيارته إلى جوار الرصيف في أحد الشوارع التجارية المعروفة بازدحامها بالزوار والسيارات، ونخرج - أنا وهو- من السيارة، حتى انبرى لنا شاب طويل نحيل الجسم، كأنه عود قرفة، كالح الوجه، مُغبر القسمات، يمسك بين أصابع يده اليمنى صفارة تشبه تلك التي يستخدمها حكام مباريات كرة القدم..
وما أن اقترب الشاب حتى ألقى علينا السلام بلهجة مشوهة؛ "مساء الخير يا بوهات"، وبوهات ليست سوى بهوات، جمع "بيه" كما تنطق في العامية، أو "بك" باللغة الفصحى.
ومن دون انتظار رد، رفع وجهه بابتسامة جافة وقال "عشرين جنيه يا باشاوية"؛ وأظنك سيدي القارئ استنتجت أن "باشاوية" تدليل للقب "باشا"، ولعلك أيضًا استنتجت أن اللقب ارتفع عندما اقترن بطلب مبلغ مالي، فعلى ما يبدو "بك" أقل من أن تُطلب معها نقود.
بعفوية مصري مهاجر منذ عقود طويلة يزور موطنه الأصلي على فترات متباعدة، سأله صديقي "ليه؟"، فرد عليه مستنكرًا وقد ارتفع حاجبه الأيسر قليلاً، "عشان الركنة"، فرد صديقي بعفوية، قد يصفها البعض بالسذاجة، "أنا راكن في الشارع!"، فرد الشاب وذراعاه تتحركان مع كلامه جيئة وذهابًا، مع انحناءة بسيطة لكتفيه ورأسه؛ "ما أنا عارف.. أمال ها تركن فين يا باشا"، وصمت قليلاً ثم أردف "يا باشا أنا هنا عشان احافظ على عربيتك، واحميها"
"بس أنا ما طلبت حماية.."، ثم أردف "وبعدين حماية من مين؟".. رد صديقي بعفوية أقرب إلى براءة الأطفال، مما جعلني ابتسم، لكني إزاء حوار يكشف فلسفات مختلفة أجلت تدخلي إلى اللحظة الحاسمة.
تغيرت سحنة الشاب، ومال بجسده وتغيرت حركات ذراعيه، وقال بلهجة بين الوعيد والتحذير، مُغمضًا عينيه بين الحين والآخر، ومُبقيًا على فمه مواربًا بعد انتهاءه من كلامه؛ "من ولاد الحرام يا باشا.. عيل كده ولا كده يسرق بتارية (بطارية) ولا يكسر فانوس، ولا يكتب عليها أحلى ذكرياته بمسمار حدادي تِلِمّ..".
"ولاد حرام؟"، قالها صديقي بلهجة وهيئة ذكرتني بالأستاذ فؤاد المهندس في دور "كمال بك"، الأرستوقراطي، في مسرحية "سيدتي الجميلة"، فاتسعت ابتسامتي، خاصة عندما تذكرت مشهد الممثلين القديرين سيد زيان وفاروق فلوكس، وهما يمران أمامه حاملين قطعا من سيارته، بينما يقف هو مبهوتًا بين الإنكار وعدم التصديق.
وهنا قررت التدخل، وناولت السايس العشرين جنيهًا بيد وأوصيته خيرًا بالسيارة، وباليد الأخرى دفعت صديقي برفق للأمام ومشينا في اتجاه الغرض الذي جئنا من أجله، وأنا أشرح له العلاقة بين السايس والشارع وأصحاب السيارات، فينظر نحوي متعجبًا بين الحين والآخر. ثم كان أن انشغلنا في غرضنا ذاك، ونسيت الأمر، واعتبرته انتهى وذهب لحاله مثل غيره من أمور تحذفها الذاكرة لعدم أهميتها.
إلا أن الأمر لم ينته عزيزي القارئ، فعندما عُدنا أدراجنا كي نستقل السيارة ونرحل، إذ أقبل علينا السايس وهو يضرب كفًا بكف ويهز رأسه في أسف ويعض شفتيه ويتحاشى التقاء أعيننا، بدا الموقف تمثيليًا أكثر منه واقعًا، فبادرته متوجسًا، "خير؟"، فقال وهو يبالغ في هز رأسه وضرب كفيه ببعضهما البعض "ها ييجي منين الخير يا باشا طول ما فيه ناس مش بتفهم وسايقة عربيات!"، فبادرته وقد زاد قلقي "حصل إيه؟"، "ها يحصل إيه يعني يا باشا.. ست غشيمة لا ليها في السواقة ولا ركوب العربيات بتطلع بعربيتها، كسرت شمال على آخر ما عندها، قامت لاطشه فانوس العربية"، فعقب صديقي بلهفة "عربيتي؟"، "أيوه يا سعادة البيه!".
قطعنا الأمتار الباقية عدوًا، فإذا بفانوس السيارة الخلفي يمين قد أصابه شرخ ظاهر، مع آثار كحت في الصاج من حوله، قطب صديقي حاجبيه، وزم شفتيه، وانفعل على السايس، محملاً إياه المسئولية، فهو الذي تقدم وادعى محافظته على السيارة وطلب عشرين جنيهًا نظير ذلك، ولى السايس ظهره قليلاً، ومال برأسه مبتعدًا عن مجال نظر صديقي، في إحساس بالذنب، لكنه سرعان ما غير استراتيجيته والتفت نحونا بالكلية وقال "يا باشا دي حادثة.. قضاء وقدر.. وبعدين أنا قلت لها مش ها تمشي ألا لما صاحب العربية ييجي وتراضيه.. زغرت لي وقامت متكلمة في التليفون.. وبعدها مدت إيدها بيه وعينيها بتطق شرار وقالت لي خد كلم.. يا باشا ما لحقت أقول آلو.. مدفع آلي الناحية الثانية بستفني وبستف اللي خلفوني، وهددني إذا الست ما مشيتش حالاً ها يخلي الدبان الأزرق ما يعرفليش طريق جُرة.."، سكت هنيهة ثم أردف كمن يقر واقعًا "يا باشا إنتوا كُبرات البلد تصطفوا مع بعض.. أنا حا يا الله سايس"..
وكما حدث صديقي القارئ في دفع العشرين جنيهًا، حدث بعد كسر الفانوس، إذ أزحت السايس بيمناي قليلاً لنمر، ودفعت صديقي إلى داخل سيارته بيسراي، وأنا أقول له مطيبًا "اطلع وها افهمك".. مضينا في طريقنا وعند تقاطع الطرق وقفنا في الإشارة الحمراء.
وهكذا عزيزي القارئ انتهى الموقف، دفع صديقي الإتاوة للسايس، وكُسر فانوس سيارته، ولم يحصل على تعويض – ولو معنوي- لأن الفاعل مجهول.. ومع هذا ما زال السايس يمارس عمله، البعض يسمونها بلطجة، ويزعم آخرون أن هناك مصالح مشتركة..
ألا ترى معي، عزيزي القارئ، تشابهًا بين دور السايس في الشارع وسلوك بعض الدول في السياسة الدولية؟ كلاهما يفرض إتاوة، ويعد بالحماية، ثم يترك صاحب السيارة يواجه خسائره وحده!!
--------------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]