في خضمِّ غرقي في هاجسِ اليأسِ من الكتابة؛ لكساد سوقها لدى القارئ، الذي استعاض عن الكتاب المطبوع أو الصحيفة بوسائل أخرى تمدُّه بالمعلومة السريعة والمتنوعة، وغبن الصحفِ ودور النشر للكاتب، بعدما حرصوا علي نشر إبداعات الكتَّاب بلا مقابل، أو بمقابل زهيد، إن وجد؛ بحجة عدم الربح لارتفاع سعر الأوراق والأحبار وأجور العمالة، كانتْ تأتيني تعليقاتُه علي ما أكتب؛ لتقول كلمة الفصل في تلك الإشكالية، إشكالية ترك الكتابة، والبحث عن مصدر رزق آخر يساعدُني وأسرتي على تحمل أعباء الحياة: استمر ؛ لأنَّ الكتابة خلود .
عرفتُ الأستاذ الدكتور ماجد مصطفى الصعيدي أستاذ الأدب القديم بكلية الألسن بقاعة الدرس بكلية البنات بجامعة عين شمس في السنة التمهيدية للماجستير .
كانت محاضرات د. ماجد الصعيدي عن الاستشراق والمستشرقين هي النافذة التي أطللت منها علي سعة علم الرجل، ورسوخ قدمه، حيث وقف أمام الطلاب وسيما قسيما يصول ويجول في الميدان، يأتي لكل سؤالٍ بجواب، ولكل غامضٍ بشرح ولكل إشكالية بحلٍ مسوق بحجةٍ قوية ودليلٍ دامغ .
لم يكنْ الاستشراقُ وعلاقةُ الشرقِ بالغرب، وجهود كلِّ فريق لنشر أفكاره ومعارفه بالعلم السهل، فكان لزاما علينا التركيز والإنصات لما يقوله د. الصعيدي، الذي اعتاد أن يدعم قوله في المسألة باقتباسات من أكثر من مصدر، فكانت محاضرته تفيض بغزارة العلم، وتنوع الآراء، ودأب إلي جانب هذا أيضا أن تسير المحاضرة في خطٍ متوازٍ مع الثقافة العامة، فكان دائما ما يُتحفُنا ببيت شعر أو أثر أو مقولة عالم أو مفكر استلَّها من كتاب أو نقلها من مرجع أثناء قراءاته الطويلة وبحثه الدائم .
في محاضرات الاستشراق والمستشرقين، وقفنا علي سعة علم الرجل، الذي اغترف من كل فنون العربية، فصارت عنده حصيلة تُمكنه من منافسة أرباب كلِّ فن، فإذا تكلم النحاةُ كان أفصحهم، وإذا تصارع اللغويُّون كانت إليه الحجة، وإذا علا صوتُ الشعر والأدب لم يُسمع إلا صوتُه، مُستندا في ذلك إلي اقتناع وعقيدة بأنَّ فروع اللغة العربية تلتقي جميعا في مصب واحد، ينهل منه المثقفون، وتتسابق إليه دلاءُ الباحثين .
رغم سعة علم الصعيدي، وهو ما يجعلُه خليقا بالاعتداد والتيه، إلا أنَّه كان نموذجا في التواضع وحُسن الخلق، فلم يتضجر أثناء شرحه من الإعادة والزيادة في القضية مثار البحث؛ حتي يستوعبها الطلاب .
حرص د. الصعيدي على أن تكون محاضرته ورشة عمل يتدربُ فيها الطلاب على الحوار، والتعاون في البحث، وتقبل الرأي والرأي الآخر، فكان لسانُ حال طلابه بمحاضرته المليئة بالحراك كحال علاقة الشرق بالغرب، وكانت العلاقة بين طلاب المحاضرة، رغم ما فيها من شدٍّ وجذب، علاقة تكامل وليس تفاضلا، علاقة حوار وليس صراعا.
بعد أن وصل الصعيدي إلي تلك النتيجة نادى فينا يوما: هذا ما أردتُ أن تعرفوه، وطبقته عليكم عمليا، وهو أنَّ العلاقة بين الشرق والغرب هي علاقة حوار.. فالصواب أن نقول.. حوار الحضارات .. لا صراع الحضارات.
تعرفتُ على العلامة الصعيدي من خلال محاضراته، وأبهرتني شخصيته ودماثة خلقه، وقوة حجته، فحرصت على أن تتوطد صلتي به بعد انتهاء الدراسة، فما إن دعاني إلي مؤتمر بكلية الألسن إلا ولبيتُ فرحا مسرورا، وما إن علمت بوجوده في ندوة أو لقاء إلا وأوسعتٌ إليه الخطى لأجلس مشدوها منبهرا بعلم الرجل واتساع مداركه.
في دورات معرض الكتاب السنوية، كنتُ أهتبل الفرصة لأفوز بما أشتريه من كتب من جهة، ولأنعم من جهة ثانية بلقاء أستاذنا الدكتور ماجد مصطفى الصعيدي، الذي كان شغوفا بحضور حفلات توقيع الكتب؛ لمعرفة آخر العناوين.
د. ماجد الصعيدي، قارئ نهم، وأكاديمي يحترم عقلية طلابه، ومثقف موسوعي، وهو ما جعله بحق عالما تُشدُّ إليه الرِّحال .
--------------------------------
بقلم: صبري الموجي
ـ مدير تحرير الأهرام