18 - 09 - 2025

سراج القلب الذي خطف البوكر

سراج القلب الذي خطف البوكر

بانو مشتاق: لدى سخط عميق إزاء النظام الاجتماعي الهرمى، وعدم المساواة، والتحامل الاجتماعي والإذلال
- قدمت الكاتبة الهندية صورا سردية عن جماعة من الهنود المسلمين المهمشين والعادات والتقاليد والقيود الدينية والمعتقد المفروضة على حياتهم
- واجهت غضبا شديدا من جماعات متشددة واعتبروها خارجة عن التقاليد والأعراف الدينية كما تلقت تهديدات بالقتل وحاول رجل مهاجمتها بسكين
مجموعتها القصصية ليست سيرة ذاتية ولكنها استلهام لمواقف إنسانية عميقة من حياتها تعطيها لبطلاتها لتضفي عليهن الحياة

الكاتبة والمحامية والصحافية والناشطة الهندية بانو مشتاق، المدافعة عن حقوق المرأة، هي أول كاتبة تكتب بلغة الكانادا تفوز بجائزة بوكر الدولية المرموقة عن مجموعتها سراج القلب وتُعد هذه المجموعة القصصية أول مجموعة قصصية تفوز بهذه الجائزة على الإطلاق.

كانت الروائية غيتانجالي شري قد حصلت على نفس الجائزة عام 2022 عن روايتها قبر بالرمل ثم فاز أرافيند أديغا بجائزة مان بوكر عن روايته: النمر الأبيض عام 2008. لكن على مدار ما يزيد عن نصف قرن، وتحديدا منذ عام 1969، أى منذ 53 عاما، وهو تاريخ انطلاق جائزة البوكر العالمية وحتى اليوم، فاز بجائزة البوكر العالمية أكثر من كاتب هندى الأصل، يكتب باللغة الإنجليزية مباشرة، على عكس جائزة البوكر الدولية، المخصصة للروايات المترجمة عن لغتها الأصلية إلى اللغة الإنجليزية، بشرط صدورها فى المملكة المتحدة، ولهذا أصبحت الكاتبة الهندية جيتانجالي شرى، هى أول كاتبة هندية تفوز بجائزة البوكر الدولية.

أما عن الكتاب الهنود الذين فازوا بجائزة البوكر العالمية من قبل، فهناك الكاتبة سوزانا أرونداتي روى، التي فازت بالجائزة عام 1997 عن روايتها إله الأشياء الصغيرة ثم عرفت الجائزة الكاتب الهندى سلمان رشدى، الذى فازت روايته أطفال منتصف الليل عام 1981. بعد سلمان رشدى، عرف العالم الكاتبة الهندية كيران ديساى، بعد فوزها بجائزة البوكر عام 2006، عن رواية ميراث الخسارة. تتناول مجموعة سراج القلب قصصًا كُتبت بين عامي ١٩٩٠و٢٠٢٣، وصوّرت معاناة نساء مسلمات عاديات مهمشات في جنوب الهند. وقد اختير الكتاب من بين قائمة قصيرة مكونة من ستة أعمال عالمية. وبهذا الفوز ألقى الضوء على تجربة هؤلاء النسوة وصراعهن مع الحياة في هذه المنطقة من العالم. وعلى أدب لغة الكانادا والتنوع اللغوي والثقافي الغني في شبه القارة الهندية. كما فتح آفاقاً جديدة أمام الأعمال الإقليمية لتخترق الساحة العالمية. وأعاد الحياة إلى القضايا الكبرى التي كانت قد توارت لصالح التفاصيل اليومية وأعادت أدب الالتزام إلى دائرة الضوء وفق شروط فنية عالية بعيدا عن الأدلجة. 

تقول بانو مشتاق: لدى سخط عميق إزاء النظام الاجتماعي الهرمى، وعدم المساواة، والتحامل الاجتماعي والإذلال.

ولدت بنو مشتاق ونشأت في بلدة صغيرة في كارناتاكا، ونشأت في حي مسلم حيث درست القرآن الكريم ثم التحقت، بمدرسة تابعة للدير، حيث كانت لغة التدريس الكانادا، اللغة الرسمية للولاية، التي أصبحت فيما بعد لغتها الأدبية. صدرت لها ستّ مجموعات قصصية ورواية ومجموعة شعرية.

نُشرت قصتها القصيرة الأولى في مجلة محلية وهي في السابعة والعشرين من عمرها، بعد عام من زواجها وقالت في مقابلة مع مجلة فوغ:

لطالما رغبت في الكتابة، لكن لم يكن لدي ما أكتب عنه، لأنه فجأة، بعد زواج عن حب، قيل لي أن أرتدي النقاب وأكرس نفسي للأعمال المنزلية. في مجموعتها مصباح القلب تعكس الشخصيات النسائية نفس المرونة التي عاشتها. في سن التاسعة والعشرين، أصبحت أمًا تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة. في مقابلة لها مع مجلة The Week ، تحدثت عن سكب البنزين على نفسها، بنية الانتحار حرقًا: "في إحدى المرات، وفي نوبة يأس، سكبتُ بنزينًا أبيض على نفسي، ناوية إشعال النار في نفسي. لحسن الحظ، أدرك زوجي ذلك في الوقت المناسب، فعانقني، وأخذ علبة الكبريت. توسل إليّ، ووضع طفلنا عند قدميّ، قائلًا:

لا تتخلي عنا وأضافت: ربما كان ذلك بسبب اكتئاب ما بعد الولادة.

انتمت بانو مشتاق إلى جماعة من المتمردين في السبعينات والثمانينات اعتبروا أنفسهم حركة تحرر اسمها: باندايا استخدمت الأدب والنشاط لتسليط الضوء على الظلم الاجتماعي والاقتصادي.

قدمت الكاتبة الهندية بانو مشتاق صورا سردية عن جماعة من الهنود المسلمين المهمشين والعادات والتقاليد والقيود الدينية والمعتقد المفروضة على حياتهم وما يواجهونه من مصاعب استطاعت أن تقول إن الأدب هو فعل مقاومة وتعبير عن التمرد على السياق العام للمجتمع وفنها يلقي الضوء على جماعة إنسانية مهمشة وسط تنوعات الهند المثيرة ومن ناحية ثانيه إلى أنها تمتلك نوعا خاصا بالسرد له قيمة عالية وتقنيات مميزة رغم بساطة اسلوبها الحيوي اللاذع الذي يختلط فيها الجدي بالسخرية المرة السوداء، حتى أنها واجهت غضبا شديدا من جماعات متشددة واعتبروها خارجة عن التقاليد والأعراف الدينية كما تلقت تهديدات بالقتل بسبب جرأتها على اقتحام الممنوعات خاصة التفسيرات الدينية الغير مبررة زادت بعد دعمها العلني لحق المرأة في الصلاة في المساجد  قالت أيضًا أن رجلاً حاول مهاجمتها بسكين لكن زوجها تمكن من التغلب عليه. بعد صدور فتوى تدينها عام 2000.

في محاولة مني لفك شفرة قصصها وجدت أن السخرية المرة تبدو واضحة على سبيل المثال في قصتها مطر من نار أثناء جنازة نزار اعترضها سكير يسب ويلعن واكتشف الناس أن الجثة ليست لنزار لأن نزار يقف أمامهم بعد كل المجهود الذي بذله متولي صاحب المسئول عن شئون الجامع لكي يعطي للجثمان الجنازة والغسل والتكفين اللازم لمسلم. في الحوار بين متولي ورئيس المنطقة يتضح أن اهتمام صاحب يتجه لأشياء من وجهة نظر الكاتبة ثانوية في حين أن الأشياء المهمة لا يبذل فيها أي مجهود يذكر "اصطحب المتولي معه عدة شبان، والتقى بمفوض المنطقة أولاً؛ كان ذلك مدعاة فخر له. كان مفوض المنطقة شابًا أيضًا، من طبقة البراهمة البنغالية، وخريج جامعة جواهر لال نهرو. كان على دراية بالفوضى في العلاقات المجتمعية داخل المنطقة، والانفعالات العاطفية التي قد تنشأ أحيانًا. قرأ الرسالة التي سلمها له المتولي، وفهم الموقف. ورغم أنه كان يضحك في داخله، إلا أنه جلس بوجه جاد ووقور. استمع إلى كلمات المتولي العاطفية، وتجاوز الموضوع ليسأله بالأردية. ما الجديد يا متولي صاحب؟ لم تأت لرؤيتي قط بخصوص حفر آبار جديدة لمنطقتك أو إصلاح مبنى المدرسة أو أي أعمال أخرى من هذا القبيل أوقفه المتولي في منتصف الجملة. سأعد قائمة بكل ذلك وأعود في المرة القادمة، يا سوامي؛ أما الآن، لو كان بإمكانك إصدار أمر، فهذا يكفي.

استطاعت الكاتبة أن تجمع بين محاولة الحفاظ على وجود شخصيتها في هذا المجتمع الإنساني وبين رفضهن القيود عليها والدخول في صراعات للحفاظ على انسانيتهن من العنصرية والتسلط الذكوري والعرقي وفي إحدى قصص المجموعة التي تحمل عنوان معلم اللغة العربية وجوبي منشوري تروي بسخرية عن شاب يريد زوجة بشرط أن تعرف كيف تتقن وجباته المفضلة وحين يجدها تجد المرأة نفسها أسيرة لضغوط أخرى ذكورية أبوية لا تستطيع الفكاك منها وهن يحاولن التحرر ومقاومة هذه القيود وفي إحدى قصص مجموعتها "الأفاعى السوداء"، تُخبر امرأة أن الإسلام يسمح للنساء بالتعليم والعمل، لكن بعض العلماء «يحرفون» النصوص الدينية لمصالحهم الشخصية، ويقال لها: «لا تستجدى، طالبى بالعدالة». جميع نساء بانو مشتاق محصورات داخل جدران منازلهن الأربعة، باستثناء واحدة تعمل محامية، لكنها تعانى من تأنيب الضمير؛ لأنها لا تقضى وقتًا كافيًا مع أطفالها. تقول على لسان هذه الشخصية: «الأمهات العاملات لا ينقذهن إلا الله»، فى إشارة إلى أن اختلاف الأديان لا يغيّر من جوهر معاناة النساء، فقصصهن متشابهة في كل مكان. هذا التوازن الدقيق بين الخصوصية الثقافية والتجربة الإنسانية العامة هو ما يجعل كل قصة من قصص مشتاق مؤثرة ولها جاذبية للقراءة تكشف عمق ما يحدث في المجتمع الهندي وليس المجتمع المسلم وحده.

في قصتها التي تحمل نفس عنوان مجموعتها سراج القلب تقول على لسان الأم: مهيرا ماذا تقولين هذا أكثر من أن يحتمل إنه رجل وقد خاض في بعض الوحل لكنه سيغسله حين يجد الماء ثم يعود لن يعلق به أي دنس قبل أن تتمكن من الربط قاطعها أمان قائلا انظروا كيف تتصرف أمامنا لا بد أنها تحدثت إليه بنفس الطريقة ولهذا غضب وغادر، توقف قليلا وخفف من حدة نبرته لا بد أن تتعلم زوجات أبناء هذا المنزل هذه الطريقة أليس كذلك تحول حزن رون سريعا إلى غضب ثم إلى خيبة.

تستدعي الكاتبة لحظة غضب أصيبت بها أثناء اكتئابها ما بعد الولادة حين أمسكت  زجاجة بنزين لتنتحر وأنقذها زوجها بأن حمل طفلته ووضعها بين قدميها سائلا إياها أن تعيش لأجل طفلتها فتراجعت ثم بعد سنوات أعطت نفس هذا المشهد للابنة سلمى حين اشتمت رائحة الكيروسين في الحديقة ورأت أمها على وشك انتحار فقالت لها:

إنت مستعدة للموت بسبب أبي ألا يمكن أن تعيشي من أجلنا كيف يمكنك أن تجعلينا أيتاما يا أمي نريدك. هذه المجموعة القصصية ليست سيرة ذاتية ولكنها استلهام لمواقف إنسانية عميقة من حياتها تعطيها لبطلاتها لتضفي عليهن الحياة. هكذا خلقت عالمها من نماذج محيطة يعانين من ظلم العادات والتقاليد ويطالبن بحياة طبيعية فيها مساواة وحب وإنسانية.

وتأتي أهمية فوز بانو مشتاق بالجائزة إلى أنها تتناول المجموعة القصصية على عدة محاور منها اختيار المترجمة ديبا بهاستي المجموعة القصصية التي ترجمتها من خمس أو ست مجموعات قصصية تتكون من حوالي 50 قصة اختارت منها 12 قصة لترجمتها. لماذا اختارتها على وجه لتحديد وما هي الروابط التي تجمع بينها؟ في العادة  المجموعة القصصية الواحدة يجمعها روابط يختارها الكاتب بوعي لهدف عام تهدف إليه معظم القصص على الأقل أو سمات خاصة تجمعهم بحيث تسرب في النهاية نوعا من الأحاسيس والتأثير على القارئ أثناء القراءة وتخلق نوعا ما من البنية المقصودة بعناية لوضع القصص وترتيبها داخل العمل نفسه كما إنها أحيانا تشكل بنية بينها وبين بعضها على مستويات متعددة في حين أن اختيار مجموعة من القصص من 50 قصة معناه فقد هذا الملمح الذي بنيت على أساسه المجموعة القصصية وعلى المترجمة أن تخلق من اختياراتها بنية أخرى وعلاقات أخرى بين المجموعة المختارة تتم عن طريق عين المترجم وتلقيه بالقراءة من خلال خبراته الاحترافية ومرجعياته الثقافية. 

حاولت المترجمة أيضا أن تنقل النص بما يحمل من انساق ثقافية وتقربه إلى اللغة الإنجليزية من لغة الكنادا وصرحت بإن بانوا كانت أحيانا تخلط بين لهجات عامية لخمس لغات من اللغات الهندية: منها البنغالية والأردية وغيرها أثناء صياغة العمل الأدبي نفسه واضطرت المترجمة لوضع بعض الحروف المتغيرة في اسم ما على سبيل المثال في اللغة العربية في اللهجة الصعيدية حين ينطق الصعيدي كلمة الجردل ينطقها الدردل بالدال واستخدمت المترجمة هذا في الحروف ما بين القاف والجيم وأظن إن عندنا القاف والجيم  بتقلب في بعض اللهجات العربية ووضعت بعض الأغاني أو الجمل باللهجة المحلية كما هي مثلا الاغنية الاتية في قصتها مطر النار: Handi yendeke heegaleyuve Manadalli 

handi, maneyalli handi Maiyalli handi hottavane… هاندي ينديكي هيجاليوف مانداللي هاندي، مانداللي هاندي مايالي هاندي هوتافان…

باعتباره نوعا من إضفاء المحلية على الإنجليزية أي إنها عرفت كيف تقرب النص بمحليته إلى اللغة الإنجليزية وفتحت بذلك خطا جديدا أو إضافة جديدة أو طعما مختلفا للغة المنقول إليها، وقد أعلن عن هذا في حيثيات حصول المترجمة على الجائزة لأن الجائزة هي جائزة ترجمة في الأساس الترجمة رفيعة المستوى قدمت عملا فنيا حافظت فيه على خصوصية الطابع المحلي دون أن تخل بمستوى اللغة المنقول إليها رغم أنها لم تحافظ على قواعد اللغة الإنجليزية الصارمة كالعادة ، كما قال رئيس لجنة التحكيم بأنها ترجمة راديكالية واحتفاء بالعبور بين اللغات ونص متعدد الطبقات يبرز فيه الطابع الكنادي ويمد القارئ بخيوط ثقافية دقيقة دون تغريب أو تزييف. ونعود إلى الكتابة في هذه المجموعة القيمة وإن كنت آخذ على الكاتبة الإطالة وإن كانت قد نجحت في رسم صورة حقيقية لأحوال المسلمين الهنود المنغلقة على عالم ضيق عنصري ولا يحترم المرأة.

حصلت بانو مشتاق على العديد من التكريمات عن أعملها، بما في ذلك جائزة أكاديمية كارناتاكا ساهيتيا وجائزة دانا شينتاماني أتيمابي وترجمت لعدة لغات هندية وهذه هي المرة الأولى التي ترى أعمالها النور في لغات خارج الهند إلى الإنجليزية.
---------------------------
بقلم: هالة البدري
* كاتبة مصرية حاصلة على جائزة الدولة التقديرية