17 - 09 - 2025

ما لم يقله الرئيس؟

ما لم يقله الرئيس؟

هناك شبه اتفاق بين أغلب المراقبين علي أن الرئيس السيسي قد استخدم في خطابه الأخير بعض المصطلحات لأول مرة عند التعرض للكيان الصهيوني ، وقد كان ذلك فيما يبدو صدمة لأنصاره ومؤيديه ، بقدر ما كانت - كما أظن وأدعي- لمعارضيه ، ولكنها بالمجمل كانت أخباراً سيئة لإسرائيل .

لذلك ربما يعد ذلك أخطر وأهم خطاب له ، منذ ان تقلد منصبه الأعلى في مصر قبل إحدي عشر عاماً ، فلأول مرة ينطق الرئيس إسم إسرائيل بهذا الشكل في خطاب عام ، وقد كان البعض يلاحظ ، وربما ينتقد ، تفادي الرئيس دائما الإشارة بالإسم إلي ذلك الكيان العنصري ، إلا في مرات قليلة لا تكاد تذكر في لغة الخطاب .

وكان أنصار الرئيس ومحبوه يرون في تفادي الرئيس التعرض لإسرائيل بالاسم تعففاً معتاداً منه ، تعكس رقياً وتحضراً ، وتخلياً عن الأسلوب الشعبوي الذي أعتاد عليه أسلافه في مصر والمنطقة العربية عموماً . وسعياً للحفاظ علي السلام من أجل استكمال مشروع بناء الدولة في هدوء ، وكان ذلك كما ذكرت مقبولاً منهم ، ويعدونه ذكاء يقي مصر شر المقادير .. بل كان هناك من كان يري أهمية أن يبدي الرئيس المزيد من المشاعر الدافئة حيال ذلك الكيان (وخاصة أهل كوبنهاجن في مصر ) ، بما قد يساعد في تسخين التطبيع المجمد ، فربما يفك ويسّاقط منه علي المصريين رطباً جنياً .

ولكن الرئيس في كلمته بقمة الدوحة لم يكتف بمجرد ذكر إسرائيل بالإسم ، وإنما فاجآ الجميع بوصفها بالعدو، وهو وصف لم ُيستخدم بهذا الشكل من قبل من جانب رئيس مصري رسمي منذ الزيارة التاريخية للسادات إلي القدس، بل وأضاف الرئيس بلغة واضحة لا تحتمل أي لبس "تحذير من أن السياسات الإسرائيلية لا تهدد فرص السلام المستقبلية فحسب، بل قد تهّدد أيضا "المعاهدات السلمية القائمة "، وكانت تلك العبارات تمثل بحق إنقلاباً واضحاً علي السياسة المصرية التي تحجرت تجاه إسرائيل لمدة قاربت النصف قرن ، بما جعل من إتفاقية السلام نوع من الأبقار المقدسة التي لا يجوز الإقتراب منها أو حتي المساس بها .

ولم تقتصر كلمة الرئيس علي ما تقدم فحسب ، بل أدان العدوان الإسرائيلي على قطر، واعتبره انتهاكا لسيادة دولة عربية، كما أضاف عبارة دالة وقوية تطالب بضرورة تضافر عربي وإسلامي للتصدي والتعامل مع ًالتهديدات على نحو عملي لا يقتصر على الكلام فقط ، مشيراً إلي عالم عربي واحد يمتد من المحيط الأطلنطي إلي الخليج العربي ، بما يمثل في حد ذاته ثورة تحتقر ما ورد من مواد في إتفاق السلام الموقع مع إسرائيل ، وعقابا علي عدم إحترامها لهذا الاتفاق نصاً وروحاً، بل وتشير بشكل لا شك فيه إلي أن "مصر" هي التي تعيد الآن ترتيب معادلات الشرق الأوسط من وجهة النظر العربية .

وبعد صدمة الخطاب ، بدأت بعض ردود الأفعال في الظهور ، فقد كان ذلك بحق تحولاً هاماً في اللهجة المصرية تجاه إسرائيل بما أدي إلي ردود فعل إيجابية قوية من مؤسسات رسمية وأحزاب ومحللين مصريين وعرب . فقد رأى الكثير أن الخطاب ُيعّد إنذاراً إستراتيجياً لإسرائيل، وأن رسالة السيسي لم تتوجه فقط إلى الداخل المصري بل إلى إسرائيل مباشرة، وإلى الشعوب العربية والإسلامية .

ما تقدم هو النصف المليً من الكوب، لأنه رغم التأييد الواسع لخطاب الرئيس ،  إلا أنه كانت هناك بعض التحفظات من بعض الجهات بسبب المخاطر التي قد تنجم عن تصعيد لغة الخطاب ، وخاصة في كيفية ترجمتها إلي سياسات فعلية، وهل الدول العربية جاهزة لتحمل عواقب مواقف أكثر جرأة ، قد تهدد مقاعد الحكم والعروش ، وهو ما دفع بالبعض إلي أن يري  أن الخطاب جزءا من المزايدات السياسية داخليا أو للرهان على الموقف الشعبي في ظل الأزمة القائمة، أما فيما يتعلق بإلغاء إتفاقية السلام المبرمة بين مصر وإسرائيل عام  ١٩٧٩ ، فأنا شخصياً أظن أنها تشبه محاولة "قتل ميت" ، آو كما سبق لي آن وصفتها: "إتفاقية السلام قد أصبحت مثل وثيقة زواج بين طرفين انفصلا تماماً منذ سنوات، بل وتطور الإنفصال إلي كراهية متبادلة ، بحيث لا يبقي سبب للإبقاء علي الوثيقة سوي "من أجل عيون الأولاد" ( أو ثمرة الخطيئة الأصلية أصحاب المصالح والمفاسد ) ، أو خوفاً من كلام الناس ( المجتمع الدولي المنافق) .

لقد أصبحت العلاقة غير شرعية بكل وضوح ، واستمرارها نوع من " … السياسي " ( كلمة لا تليق) .

الخلاصة أن الرئيس السيسي قد قال ما لم يتوقعه أحد، ولكن ربما " ما لم يقله هو الأهم " ..

يمكن القول بأن ما ورد في خطاب الرئيس في الدوحة ، قد يكون " طلقات تحذير مضيئة "، ولكن لم تتضمن ما يرقي إلي عناصر خطة عمل جماعية ، وإجراءات تعبوية علي مستوي الدولة كي يكون للتحذير مصداقيته ، فمن المهم أن يقتنع الرأي العام الإسرائيلي (والمصري) أن مصر تعني ما تقول ، وأن قواعد اللعبة القديمة قد انتهت بعد قصف الدوحة ، وبعد تهديد نتنياهو المبطن لمصر بأن ذلك يمكن أن يحدث فيها أيضاً.

أن قادة الحركة الصهيونية، منذ ثيودور هرتزل وحتى حكومات إسرائيل المتعاقبة، كانوا ينظرون إلى مصر باعتبارها "العقدة الأساسية" أمام مشروعهم الإستيطاني ، ولقد أدركت الولايات المتحدة مبكراً أهمية تحييد القاهرة منذ ثورة يوليو  1952، فسعت إلى الدفع باتجاه تسوية سياسية بين القاهرة وتل أبيب.

وليس من شك في أن إسرائيل سرعان ما استغلت توقيع معاهدة السلام مع مصر ، إذ أعلنت ضم القدس بعد 15 شهراً فقط من المعاهدة، على رغم أنها كانت تحتلها منذ عام 1967، لكنها لم تجرؤ على اتخاذ خطوة الإعلان إلا بعد تحييد مصر، وشنت ضربات على العراق عام 1981، ثم احتلت بيروت في العام التالي، واستمرت في عربدتها حتي وصلت إلي قمة الجنون الحالي ، وكأن نتنياهو هو " نيرون " ، الذي يقول بدلاً من أنه " سوف يحرق روما " ، فأنه " سيحرق الشرق الأوسط .. بما في ذلك الحلم الصهيوني نفسه " .

وليس أدل علي ذلك من أن مراكز التحليل الإسرائيلية تبدي اليوم قلقاً متزايداً من سياسات نتنياهو وتوسعه في الحرب، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى "إيقاظ مصر مرة أخرى"، لتعود إلى موقعها المركزي في معادلة الصراع ، مشددة على أن مصر كانت ولا تزال الرقم الأصعب في مواجهة المشاريع الإسرائيلية.

ومن هذه الزاوية يمكن أن نري الفراغات فيما ورد في الخطاب ، والذي قد يكون متعمداً ، تمثلاً بحكمة : "دع خصمك يخمن خطوتك التالية"، وكنت قد كتبت مقالين في يومين متتالين ، أحدهما قبل اجتماع وزراء الخارجية تحت عنوان : " هل تكون قمة الفعل أم الكلام ؟ "  آوضحت فيه : "  كل القلوب المخلصة تتجه إلي الدوحة حيث يلتئم لقاء رؤوس الدول الإسلامية والعربية ...وتمنيت أن يتحقق ما لا يتوقعه أحد ، ببروز موقف صلب يناطح الصلف الصهيوني ، رغم إدراكي أن الواقع العربي والإسلامي مريض ، والجسد المريض لا يقوي إلا لإيذاء نفسه " .

وقد بينت في هذا المقال المصاعب التي تواجه مؤتمراً به عدد كبير بهذا الشكل فذكرت أن: "القمة العربية والإسلامية عنوان كبير يحمل في ذاته ما يجعل المجتمع الدولي متلهفاً لما قد يصدر عنها ، إلا أن هناك مشكلة بنيوية في هذا النوع من التجمع ، وهي أنه ازدحام لعدد كبير من المصالح والمواقف المتباينة ، وبالتالي يكون المتوقع من حصيلة اللقاء هو توافق علي الحد الأدني" .

وقد رآيت بناء علي ذلك أن " التدرج قد يكون مفيداً ، للتصعيد المتتالي علي مستويات مختلفة ، بحيث تكون البداية بقمة لمجلس التعاون الخليجي ، للتشابه الذي يجمع دوله في رؤاهم الأمنية وارتباطاتهم الدولية وخاصة مع أمريكا .

يلي ذلك الاجتماع التمهيدي ، ويرتب علي مدي الأثر الذي يتحقق ، قمة الدول العربية وحدها ،تحاول فيها التوصل إلي قرارات محكمة تحمل بعض الأسنان والأنياب ( مثل تجميد أي اتصالات دبلوماسية ، وأي معاملات تجارية مع إسرائيل وإعادة تفعيل مكتب المقاطعة ، وطرح مبادرة علي الجمعية العامة بإعادة إدراج القرار الملغي بإعتبار الصهيونية إحدي مظاهر التفرقة العنصرية ، وتجميد أنشطة إسرائيل في الأمم المتحدة ، والتحذير بأن استمرار العدوان والإبادة في غزة سوف يؤدي إلي النظر بجدية في دعم أهل غزة بكل الوسائل لحماية أنفسهم وفقا لمبدأ حق الدفاع عن النفس ..إلخ  ) .

ورأيت أن ذلك في النهاية يمكن أن يتوج بالقمة العربية والإسلامية التي سيكون دورها أن تبارك ما سبقها من قرارات دون الدخول في تفاصيل قد تؤدي إلي انقسامات ، مع اعتماد خطة عمل تنفيذية علي المستوي الدولي" .

ولذلك كان المقال الذي نشرته في اليوم التالي تحت عنوان : " مهمة إنقاذ ما تبقي من فرصة السلام " ، حرصت أن أبين  فيه أنه : " بعد نهاية إجتماعات وزراء الخارجية أمس ، اتضحت إلي حد كبير النتائج المتوقعة لقمة الدوحة ، التي تبدو مثل قمة " الدوخة " ، حيث تأكدت مخاوفنا التي أعربت عنها في مقالي بالأمس :" هل تكون قمة الفعل أم الكلام ؟" ، وأبديت التحفظ علي العدد الكبير للمؤتمرين ، والذي يقود غالباً إلي تعثر التوصل إلي قرارات حاسمة ، وسيادة منطق التوافق الذي يؤدي في النهاية إلي ما أسميته :" التوافق علي الحد الأدني " .

وكنت أري بناء علي ذلك ، أنه يكفي صدور قرار مصيري واحد بدعم مبدأ المقاومة المسلحة للإحتلال ، وتنفيذ القرار بكل ما يحمله من أبعاد ..

كما كنت أتمني أن يتحقق ما لا يتوقعه أحد ، ببروز موقف صلب يناطح الصلف الصهيوني ، رغم إدراكي أن الواقع العربي والإسلامي مريض ، والجسد المريض لا يقوي إلا لإيذاء نفسه .

وكان واضحاً تشكك عدد كبير من المعلقين من إمكانية صدور أي قرارات هامة من القمة علي أساس تخوف القادة من قرارات تغضب أمريكا ، وتهدد مقاعدهم ..ولكنني تساءلت : "  ألا يدرك الكافة أن المشكلة بعد ما حدث في قطر ، فإن الخطر يتهدد كل العروش ، وليس الشعوب فقط هذه المرة ".

لذلك اقترحت صبيحة إنعقاد القمة أنه قد "أصبح من اللازم إيجاد صيغة إنقاذ تعرض اليوم علي القمة ، تتبناها مصر ومعها بعض الدول المؤثرة ، وقد يتمثل ذلك في ان يضاف إلي إعلانات الشجب والإستنكار والمناشدة ، قرار بتبني " إستراتيجية إحتواء خطر التمدد الصهيوني"، وتكليف مجموعة مختارة من دول المجموعتين العربية والإسلامية ، بوضع الخطط الكفيلة بتنفيذ هذه الإستراتيجية ، كمجموعة عمل من دول مثل مصر وإيران وتركيا والسعودية والجزائر وباكستان ، وذلك في مدي زمني قصير متفق عليه ، مع تكليف وزراء خارجية تلك المجموعة بالتوجه إلي نيويورك لطرح مشروع قرار تحت الفصل السابع يلزم إسرائيل بوقف إطلاق النار في غزة وسحب قواتها من القطاع ، وتعويض الحكومة القطرية عن الأضرار المادية والمعنوية " .

ويبدو أنني كنت شديد التفاؤل ...

ومع ذلك أري اليوم ، بعد ما ورد في خطاب الرئيس ، أنه خيب آمال المتشائمين من إمكانية نجاح القمة ، بحيث يمكن القول بأنها لم تكن " فقط " قمة للكلام كما توقع البعض ( ومنهم أنا شخصياً ) ، لكنها اشتملت علي " كلام جديد ومهم " ، وإن كانت قد خلت من " خطط العمل " ، ومنها ما اقترحت بعضه في الفقرة السابقة بشآن " إستراتيجية إحتواء خطر التمدد الصهيوني " ، وذلك علي كل حال لا يمكن توقعه في مؤتمر مزدحم مثل مؤتمر الدوحة ، وريما تكون ساحته هي القنوات الدبلوماسية الهادئة بين العواصم التي أشرت إليها ، والتي يمكن الإضافة إليها بالطبع .

وقد يقال أنها كانت قمة: "لا كلام ، ولا فعل" ، كما ذهب البعض .. ولكنني بعد التقدير الدقيق ، لا أوافق علي ذلك ، فبعد خطاب الرئيس المصري هي : " قمة كلام جديد ، ينقصها بعض الفعل " .

المسألة في النهاية كما كنت أراها ، ليست نجاح أو فشل " قمة " يمكن أن تدرج شأن غيرها في متحف الصور التذكارية ، وإنما تتمثل في خطورة خروج قرارات للقمة ، بعد قصف عاصمة عربية مسالمة ، دون المستوي المأمول ، وأن ذلك سوف يكون في حد ذاته تهديداً للسلام والأمن الإقليمي ، لأنه سوف يرسل رسالة طمأنة إضافية لإسرائيل تسمح لها بالمزيد من الخروقات والإنتهاكات في منطقة الشرق الأوسط ، وليس أدل علي ذلك من قيام رئيس الكنيست بعرض فيديو قصف الدوحة وهو يعلق بغرور " أن تلك رسالة لكل دول الشرق الأوسط " ….

أن كلمة الرئيس لهذا السبب قد تكون الفاصل ما بين تحقيق توازن "ما "، يحفظ الأمن والسلام في الشرق الأوسط ، وبين نيران حروب سوف تشعلها إسرائيل في كل دول المنطقة بلا إستثناء ، ولا شك في أهمية الطرق علي الحديد وهو ساخن ، خاصة في وجود رأي عام دولي رافض بشكل متزايد لهمجية ووحشية السياسات الصهيونية ، وفي أعقاب جريمة الإعتداء علي دولة تتولي أعمال الوساطة ، وتحظي بقبول دولي واسع …فأن الفرصة متاحة لتصعيد متدرج لإحكام " إستراتيجية إحتواء خطر التمدد الصهيوني ".

لقد نجح الصهاينة الأوائل في تحويل عصابات إلي دولة ، ويقوم الصهاينة الآن بتحويل الدولة إلي عصابة ، لم يبق سوي أن تتحلل تلك العصابة إلي عناصرها الأولي ، ويعود كل شئ إلي أصله ، وكل لاجئ إلي بيته وذلك إنجاز للمقاومة الفلسطينية ، وعلينا أن نسهم بكل ما نستطيع في تسريع هذه العملية التاريخية الحتمية .
--------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

ما لم يقله الرئيس؟