بدأ الموسم الفنى قبل موعده بأسبوع فى جاليرى ضى الزمالك بثلاثة معارض مهمة أولها معرض "فض إرتباط" بين ثلاثة فنانين يختلف غير المتخصصين فى نسب كل عمل الى صاحبه، ومنهم من لا يعلم شيئا عن أيا من الفنانين على حد تعبير الفنان والناقد مجدى عثمان مؤلف كتاب "فض إرتباط" للفنانين الثلاثة محمد حسن محمد الشربينى مواليد الدقهلية (1892-1961)، وحسن محمد حسن الفقى مواليد القليوبية (1906-1990)، وحسن محمد حسن زبيدة من موالد المنوفية (1926-2009).
أيضا تم إفتتاح معرضين بقاعة حامد ندا لإسكتشاته، ولوحات كاريكاتير للفنان جورج البهجورى.
سنتناول فى هذا الموضوع اعمال كل من ندا وبهجورى، لأننى فى حالة لا تسمح لى بفض الإرتباط بين الثلاثة السابقين وقد قام الصديق الفنان مجدى عثمان بمجهود كبير فى فض الإرتباط هذا.
في هذا المعرض المشترك، تتجاور أعمال فنانين عظيمين، هما حامد ندا وجورج البهجوري، ليقدما معًا رحلة بصرية فريدة في أعماق الذاكرة الفنية والروح الشعبية المصرية. يمثل هذا التلاقي لحظة تأمل في قدرة الفن على تجاوز الأشكال ليلامس جوهر التجربة الإنسانية، عبر منظورين مختلفين ولكنهما يلتقيان في نقطة جوهرية: الخط.
يعتبر حامد ندا أحد رواد السريالية الشعبية المصرية - القاهرة (1924-1990)، وكان يمزج بين الواقع بكل ما يتضمنه من حكاية حقيقية وغير حقيقية. كذلك تناول الخرافات، والطقوس الشعبية الدينية والصوفية، وتأثر ندا بالزار الذى إنعكس على كثير من أعماله وتناول عدد من رموزه مثل المجاذيب والقط والديك.
ولم تكن أعماله مجرد تصوير للحياة اليومية، بل هي لوحات مشحونة بالرموز التي تحمل دلالات فلسفية عميقة. يستخدم أشكالًا آدمية وحيوانية بطريقة تجريدية وتعبيرية، حيث تبدو وكأنها تسبح في الفضاء، مما يضفي على أعماله طابعًا حلميًا وجوديًا.
وتميز أسلوبه بالخطوط الجريئة والحرة التي لا تلتزم بالواقعية، بل تسعى للتعبير عن الحالة النفسية للشخصيات والمواقف. وهو ما يظهر بوضوح في اسكتشاته التحضيرية التى تعرض الأن بقاعته.
والاسكتشات التحضيرية المعروضة للفنان حامد ندا تعتبر نافذة فريدة على عملية تفكيره الإبداعية ومراحل تطور لوحاته الشهيرة. هذه الأعمال الأولية، التي قد تبدو مجرد خطوط سريعة، تكشف عن ملامح فنية عميقة تميز أسلوبه، ومن أبرزها:
إن السرد القصصي والرمزي حتى في أبسط اسكتشاته، يتجاوز مجرد رسم الشكل إلى خلق قصة. تظهر شخصياته، سواء كانت آدمية أو حيوانية (خاصة القط والديك)، في مواقف درامية أو طقسية، تحمل دلالات رمزية عميقة مرتبطة بالثقافة الشعبية المصرية، وهذه الاسكتشات تعد ملاحظات يومية لرؤية الفنان العامة، وهى مشحونة بالطاقة المستمرة لدى الفنان لتتحول إلى أعمال فنية كبرى فيما بعد. فى بعض الأعمال يهتم ندا بالدقة الأكاديمية التى تقدر النسب والمساحات، والبعض الآخر مرتبط بالشحنة الإنفعالية للتعبير عن الفكرة واللحظة والحالة النفسية والتفاعل مع الموضوع دون الإهتمام بهذه الدقة الأكاديمية فنلاحظ الخطوط الجريئة التى تعكس حالته وتعطى الإسكتش طابعا عفويا وحيويا
يظهر في الاسكتشات المبكرة لندا تأثره ببيئته الشعبية في حي السيدة زينب، حيث يمزج بين الواقع المرير الذي يعكس معاناة الفقراء وبين الخيال والسريالية المستوحاة من القصص الشعبية وعالم "الزار" والمجاذيب. هذا المزج يعطي أعماله بعدًا نفسيًا عميقًا، ويجعلها تتجاوز مجرد التسجيل الواقعي لتصبح تعبيراً عن "ما وراء الواقع". فهو يبتعد عن الشكل التقليدي للجسد البشري، ويعالجه بطريقة تعبيرية تذكر بأسلوب النحت الزنجي أو الفن الفرعوني. فالأجسام تكون مسطحة، وتظهر مبالغات في النسب لخدمة المعنى التعبيري، مما يمنحها خصوصية فريدة.
وقد حظيت مؤسسة الثقافة للعرب ضى بعد كبير من اسكتشات ندا التى تتبع مسيرته الفنية، من بداياته التي اتسمت بنوع من السكونية والغلظة، إلى مرحلة لاحقة تميل فيها شخوصه إلى الحركة الإيقاعية والرشاقة، خاصة بعد تأثره بالفن المصري القديم والفنون النوبية. هذا التطور الملحوظ في الأسلوب يتضح بشكل مباشر في رسوماته التحضيرية المعروضة التي تظهر مدى تجريبه ومغامرته الفنية قبل الوصول للعمل النهائي.
وإذا إنتقلنا الى الفنان العالمي جورج البهجوري في 13 ديسمبر 1932 في قرية بهجورة بمحافظة الأقصر، وهو ما ارتبط باسمه الفني نجد أن أسلوبه الفريد الذي يجمع بين الفن التشكيلي الراقي والكاريكاتير الساخر، ويعد الخط هو العنصر الأهم في أعمال البهجوري. يتميز أسلوبه بالخط الواحد المتصل، الذي يبدو عشوائيًا في البداية ولكنه سرعان ما يتشكل ليخلق وجوهًا وشخصيات مفعمة بالحياة. هذا الخط ليس مجرد وسيلة للرسم، بل هو تعبير عن حالة من العفوية والسلاسة التي تعكس شخصية الفنان وروحه الحرة.
وقد اشتهر البهجوري برسم الكاريكاتير في مجلات مثل "روز اليوسف" و"صباح الخير"، حيث كان يستخدم فنه كنقد سياسي لاذع ومرآة تعكس الواقع الاجتماعيى وقدرته على التقاط جوهر الشخصية أو الحدث في خطوط بسيطة ومبالغ فيها، جعلته أيقونة في هذا المجال. أعماله تحمل في طياتها نقدًا لاذعًا للفساد والظلم، ممزوجًا بحس فكاهي خفيف.
وفلسفة البهجوري الفنية تتمحور حول إعادة تعريف الجمال في أبسط أشكاله. هو لا يرى الجمال في الوجوه المثالية، بل في ملامحها المعبرة، وفي التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية. يحاول أن يمزج بين الفن الراقي والفن الشعبي، ليثبت أن الفن الحقيقي ينبع من حياة الناس العاديين، ولهذا السبب، غالبًا ما يُطلق عليه لقب "فنان الشعب" أو بيكاسو مصر
نجح الناقد هشام قنديل فى إقتناء مجموعة نادرة من الأعمال الكاريكاتورية للبهجورى
يتميز فن الكاريكاتير لدى الفنان المصري العالمي جورج البهجوري بعدة خصائص فريدة تجعله أيقونة في هذا المجال، ومن أبرز هذه الخصائص:
الخط الساحر والبسيط المميز القائم على الخط الواحد المتصل الذي يتقاطع ويلتف، وما هي إلا لحظات حتى تتشكل ملامح واضحة للشخصية، على الرغم مما فيها من تحريف ومبالغة. هذا الأسلوب يمنح رسوماته رشاقة وعفوية مميزة. وأعماله ليست مجرد رسومات، بل هي حكايات بصرية تحكي عن مصر والإنسان المصري البسيط. يركز على رصد مظاهر الحياة اليومية في المدينة، مستحضراً ذكريات وشخصيات من الماضي، سواء كانوا ساسة أو فنانين أو حتى أشخاصاً مجهولين. كما أن رسوماته تعكس طقوساً شعبية وفلكلور مصري أصيل، وتجمع بين السخرية والنقد العميق: يتمتع كاريكاتير البهجوري بروح ساخرة وفكاهة تثير الضحك، ولكنه في الوقت نفسه يحمل رسالة نقدية عميقة تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية. هو يضحك معنا وعلى همومنا، لكنه في النهاية يثير لدينا التفكير في الواقع الذي نعيشه.
وعلى عكس الكثير من رسامي الكاريكاتير، يمتلك البهجوري خلفية فنية تشكيلية قوية، وقد درس الرسم في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وباريس. لذلك، يظهر تأثير المدارس الفنية المختلفة مثل التعبيرية والتكعيبية في أعماله، ويستخدم الألوان الزاهية والخطوط الجريئة التي تمنح لوحاته بعداً فنياً فريداً.
الشغف بالشخصيات والأماكن: لدى البهجوري شغف خاص بتصوير الوجوه والشخصيات. ويُعرف عنه شغفه بكوكب الشرق أم كلثوم، التي رسمها في العديد من أعماله بطرق مختلفة. كما أن حنينه إلى مصر، خاصة في فترات إقامته بالخارج، يجعله يستحضر في أعماله الأماكن التي يحبها في مصر، مثل القاهرة وشوارعها.
باختصار، كاريكاتير جورج البهجوري هو مزيج فريد من الفن التشكيلي، والسخرية الذكية، والروح المصرية الأصيلة. ما يميزالمجموعة التى تخص مؤسسة ضى أن بعض الأعمال الكاريكاتورية تصل الى كونها لوحات فنية قائمة بذاتها.
----------------------------------------
بقلم: د سامي البلشي