في غضون ثلاثة أسابيع، تبدأ السنة الثالثة لأول مذبحة في التاريخ تُبثّ وقائعها على الهواء مباشرة، بالصوت والصورة.. اطمئنوا.. ما زالت هناك أصوات قوية تدعو إلى تحكيم العقل وتؤكد أن الاجتياح خط أحمر.. فرغت كل الألوان سادتي، ولم يَبقَ أحمر سوى شيء واحد: الدم العربي!
ودعت المعلمة أبناءها الستة.. قبلتهم بين أعينهم.. وأوصت جارتها، إن هم استشهدوا، أن تكفنهم فربما لا تعود..
في حصة الرسم.. فرد نضال ورقة بيضاء.. غمس إصبعه الصغير في بحيرة الدم إلى جواره ورسم قلبًا وعلما، وقبل أن يمد يده بالرسم إلى المعلمة، سُوّيَ المكان بالأرض، فاطمئنوا.. المدينة ما زالت بخير!
لن يشتري أولادنا وبناتنا أدواتهم المدرسية للعام الثالث على التوالي.. أكد المفوض السامي أن لا وقت للدراسات النظرية، وهمس أحدهم أن المسافة بين الميلاد والرحيل كهذين، وأشار إلى إصبعين من أصابعه..
لن يشكو جهاد من صعوده المتكرر إلى الدور العاشر ثانية.. حيث يقيم مع أسرته.. هبط الدور العاشر إليه، حيث كان ممددًا مضرجًا بالدم، مثقوبًا بالشظايا..
مسح الطبيب جبهته المنداة بالعرق وفرك عينيه المتعبتين.. كان آخر ما يتذكره أنه يجري عملية لمريض واحد، فما بال غرفة العمليات اكتظت بالقتلى!!..
لم يبق حجر على حجر.. المنازل.. العمارات.. المدارس.. المصانع.. المستشفيات.. المساجد.. الكنائس.. لا فرق بينها.. تحولت جميعها إلى أكوام من حجارة.. لون طوب غزة أحمر لأنه لم يُسقَ بماء، بل سُقي بالدم، فاطمئنوا.. المدينة ما زالت بخير!
سويت المدينة بالأرض.. فلا بابٌ يغلق.. ولا شباك يُوارب.. ولا ستارة تنزاح قليلاً لليسار كي يتسلل منها ضوء النهار الذهبي.. ولا باب شرفة يُفتح لنطل منها على القمر الفضي في المساءات الحالمة..
اهدأ سيدي الضمير الإنساني.. أؤكد لك أنه ما زال هناك بقايا بشر.. بضع رجال ونساء وأطفال وشيوخ يتأهبون للموت بكل ما تبقى لهم من جهد وقوة، فاطمئنوا.. المدينة ما زالت بخير!
تَعِبَ السيد قتل وكَرِهَ عمله حتى أنهم سمعوه يقسم ذات يوم قائلاً: "لو كنت رجلاً لانتحرتُ وارتحتُ من هذا العذاب!!".. ثم زفر زفرة قوية وصرخ "ألا توجد رحمة؟.. ألا يوجد قلب في هذا العالم؟.. أربع وعشرون ساعة من دون لحظةٍ واحدةِ للاستراحة!.."، ثم مسح دمعتين وواصل عمله..
"اتركوا للسيد قتل بعض الوقت ليستريح، ولو قليلاً"، قال مُسعف بتأثر بعدما شاهد آثار التعب على ملامح السيد قتل. ثم أردف: "لاحظتُ عليه علامات دوار ونحن نرفع جثامين عشرات الضحايا؛ استهدفهم طيارٌ شاب بآخر صاروخٍ معه وهو في طريقه عائدًا مزهوا بانتصاراته الأسطورية. ربما أطلق الصاروخ ابتهاجًا بعودته سالمًا وأراد أن يشرب كأسًا من دم.. فهل هذا كثير؟"، اطمئنوا.. المدينة ما زالت بخير!
لن ينجو الرجل من المحاكمة.. سوف يُـحاكم ويُدان.. وربما يُسجَن لبعض الوقت.. رسم الواقف أمام المذياع ابتسامةَ سخرية على وجهه، وتذكر يوم عاتب جاره على ضرب ابنه أولاده.. ثار الجار، فتبادل الجيران عبارات الطمأنينة والانتصار حين سمعوا صراخه متوعدًا ابنه بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنه ما أن دخل وأغلق الباب خلفه، حتى سمعه في وقوفه المستسلم على الدرج يقهقه وربَتَ على كتف ابنه قائلاً "علمهم أن لهذه البناية مالكٌ واحد يجلس في هذه الشقة".. ثم أردف "طلع عينهم.. ولا يهمك"..
كتب المؤرخ في كراسته: "تغيرٌ قياسي في مسار الأحداث.. لم يتجاوز مجموع قتلى اليوم المائةً فلسطيني.. يبدو أننا صرنا أقرب مما نتصور للنهاية.."، ثم دون في الهامش بخط صغير "أتوقع ألا نجد في غضون أيام قليلة أيَّ بشر.."، فاطمئنوا.. المدينة ما زالت بخير!
حصدت مقاطع الفيديو ملايين ملايين المشاهدات.. وتخاطفتها المنصات الرقمية.. ولونت الصحف عناوينها بدماء الشهداء.. والحديث في مقاهي التواصل الاجتماعي، وفي الإذاعات، وعلى الشاشات لا ينقطع ليل نهار.. فأي مكسب آخر تريدون؟.. اطمئنوا.. اطمئنوا.. فالمدينة –كما يقول البعض- ما زالت بخير!
--------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط