10 - 09 - 2025

سيدنا (طنطاوي) .. خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه !

سيدنا (طنطاوي) .. خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه !

في حارةٍ ضيقة مبانيها من اللبن، تُشبه شَقَ الثعبان، اعتدنا مع بزوغ الفجر أن نخرُحَ إليه لتسميع (الماضي)، وتصحيحِ (الحاضر)، و(الفِتُّ) هو من نجا من(الفَلَكة).

كان المثولُ بين يدي (سيدنا) بعد طابورٍ طويل، يتمني مَنْ لم يحفظ ورده ألا ينتهي؛ خشية المواجهة، ولكن هيهات هيهات .

في ذلك الطابور، الذي تصفُّه عصا (سيدنا) الطويلة، التي تصل إلي آخر الجالسين بسهولة، اعتدنا الجلوسَ، وبأيدينا ألواحٌ من الصاج أو الخشب، نرتلُ منها آي القرآن، فيُسمَعُ لنا طنينٌ كطنين النحل، تصاحبُه حركاتٌ لا إرادية للأمام والخلف، كما لو كان الواحدُ منا يمتطي جملا فيهزُّه أثناء السير !

لم تكن لدى من شَغَلَه اللعبُ عن حِفظِ (الماضي) شجاعةُ الالتفاتِ يَمنة أو يَسرة، إذ كان همُّه الأوحد أن يُثبِّتَ حِفظَه قبل المثول أمام سيدنا، وإلا فستكونُ( وقعتُه، وربما وقعةُ أبيه مِطينة بطين )، وساعتها، نسمعُ له صراخا وربما نهيقا، ولا عجب فعصا (سيدنا) طنطاوي تصنعُ العجائب !

في ذلك الطابور، كان النوم يُهاجمُنا فندفعه، فيعاودُنا فنصدُّه؛ مخافة التثاؤب أمام سيدنا فتكون العاقبة وخيمة، وأشدُّها (قَرصةٌ) بأصبعيه يلوي بينهما اللحمَ مع السحب،  فينحبس الدَّم، ويبقي أثرُها يُنغِّصُ علي صاحبها أيامه ولياليه حتي يتم شفاؤه .

سيدنا طنطاوي، هو أحدُ الحُفاظ المهرة، الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب، وقرأوه كما أُنزل، رغم أنهم لم يقطعوا شوطا ذا بال في التعليم،  فكان القرآنُ هو معلمهم، فقوَّم ألسنتهم، ونمَّى ذائقتهم، فعرفوا متي يكونُ الوقفُ، ومتي يجبُ الوصل، وعرفوا أحكام قراءته، فأعطوا الحروف حقوقها، وأتقنوا مواضع إخراج اللسان، ومتي تكونُ القلقلة والغُنَّة، وغيرها من أحكام التجويد، فكانت عباراتهم سليمة، ولغتُهم قويمة، وسرى القرآن بين شفاههم غضا طريا .

كان الفائزُ الحقيقي أمام (سيدنا) طنطاوي، والذي يقول بملء فيه: فزتُ ورب الكعبة، هو من يسمَّع (الماضي)، ويصحح (الحاضر)، ويمضي يومُه بسلام دون أن ينزلَ عليه عقابُ الشيخ، مُتعدد الصور .

وثقَ والدي - طيَّبَ الله ثراه -  في سيدنا ثقة بالغة، ورماني في حِجره فتعهدني، حتي صرتُ بفضله ـ بعدَ الله ـ أحدَ المهرةِ بالقرآن ممن يجلسون أمامه، يضحكون ملء أفواههم على من يُعاقبهم سيدنا، فينتفض الواحدُ منهم كمن لدغه عقرب، أو عضَّته حية، أو لبسه جنٌ، فيصرخ ويولول، ويتفنن في عمل حركات بهلونية مثل (بلياتشو) في سيرك، وكلَّما أجاد المُعاقَب في القفز والنط، تزداد الضحكات؛ شريطة ألَّا يرانا سيدنا، وإلا صرنا في خبر كان !

في البدء كان القرآن، فبه استقام لساني، واتضحت لغتي، فلاترى فيها عِوجا ولا أمتا !

وبقراءة (سيدنا) طنطاوي العذبة، ارتقت حاسةُ السمع لديّ، فصرتُ ذا أذن موسيقية، تنفِرُ من اللحن، وتأنسُ بالجملة سليمة المخارج، صحيحة الألفاظ .

في كُتَّاب سيدنا، الذي صار - للأسف - أثرا بعد عين، تعلمنا أدبَ الحوار، وانخفاضَ الصوت، والاستماع للمُتكلِّم، والكلامَ بعد الاستئذان، فكان بحق ورشةَ تهذيبٍ وإصلاح .

رغم شدَّةِ (سيدنا) وقسوته علي المُقصِّر ، إلا أنَّه كان كريما حانيا علي من يؤدي واجبه، ويحفظُ وِردَه، فكان يُعطي المجتهدَ من جيبه .

 مشينا في مناكب الأرض، وغادرتُ الكتاب، إلا أنَّه ظلتْ بيني وبين سيدنا - رحمه الله - حميمية كبيرة، جعلتني أتهلَّلُ كلما رأيته بطرقات القرية يمتطي حمارته البيضاء، التي يتبلَّغ بها مقاصده، وأتفانى في خدمته، وصدق القائل:  من علَّمني حرفا، صرتُ له عبدا  .  

(سيدنا) طنطاوي، حافظٌ مُجيد، سَرَتْ بركةُ القرآن فيه وفي ذريته، فصاروا آئمة يؤمون المصلين بالمساجد، وخرج من صلبه أحد شيوخ الأوقاف الثقات، وحقا: من شابه أباه فما ظلم .. رحم الله (سيدنا) طنطاوي .. وهنيئا له ببشرى نبينا : (خيرُكم من تَعلَّمَ القرآنَ وعلَّمه).

--------------------------------

بقلم: صبري الموجي 

- مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

سيدنا (طنطاوي) .. خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه !