13 - 09 - 2025

مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي: الورش التدريبية تصنع مختبرًا حيًّا للتجريب والمعرفة

مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي: الورش التدريبية تصنع مختبرًا حيًّا للتجريب والمعرفة

يواصل مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثانية والثلاثين، برئاسة د. سامح مهران، تقديم فعالياته المتنوعة التي لا تقتصر على العروض المسرحية فقط، بل تمتد إلى فضاءات أرحب من التدريب والتجريب وإعادة اكتشاف أدوات الأداء. فقد جاء محور الورش التدريبية ليشكّل مساحة ثرية تلتقي فيها خبرات مسرحيين من قارات مختلفة مع طاقات شبابية متعطشة للتعلم والتجديد، لتتحول القاعات وقاعات التدريب في القاهرة والمحافظات إلى ما يشبه "مختبرًا حيًّا" للإبداع المسرحي.

سافاس باتساليدس: المسرح يواجه التكنولوجيا بالهوية

الناقد والأكاديمي اليوناني سافاس باتساليدس، وهو أحد أبرز الأصوات في النقد المسرحي الأوروبي المعاصر، قدّم ورشة بعنوان النقد والمسرح المعاصر. على مدار أيامها، فتح باتساليدس أبواب النقاش حول التيارات الفنية التي تؤثر اليوم في لغة المسرح، بدءًا من التعامل مع النصوص الكلاسيكية، مرورًا بالتركيز على الجسد كوسيط، وصولًا إلى التفاعل مع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

أوضح باتساليدس أن المسرح كان دائمًا ابن بيئته، وأن ما يطرأ من تطور تقني يشكّل تحديًا وفرصة في الوقت نفسه. ورغم حاجز اللغة، فإن المتدربين أظهروا قدرة عالية على التفاعل، معبّرين عن وعيهم بأسئلة الهوية والحداثة التي طرحتها الورشة.

إسلام عباس: ملامح التاريخ السكندري على الوجوه

في مدينة الإسكندرية، خطفت ورشة فن المكياج والتنكر الأنظار بما قدّمه الخبير المصري إسلام عباس من معالجة بصرية مبتكرة لشخصيات أيقونية في تاريخ المدينة، مثل الإسكندر الأكبر، ريا وسكينة، وسيد درويش.
عباس أوضح أن العمل على هذه الشخصيات لم يكن مجرد تجربة فنية في المكياج، بل كان مشروعًا بصريًا متكاملاً، إذ تداخل فيه فن الإضاءة والديكور والأزياء ليجسّد صورة متكاملة على خشبة المسرح.

ورغم أن مدة الورشة كانت قصيرة نسبيًا، فإن التفاعل الكبير من المتدربين عكس تعطشًا حقيقيًا لفن يظل في كثير من الأحيان "غير مرئي" للجمهور رغم كونه ركيزة أساسية في تشكيل العرض المسرحي.

أليسيو ناردين: القناع أداة لاكتشاف الذات

من إيطاليا جاء المخرج والمدرّب أليسيو ناردين ليقدّم ورشة القناع والكوميديا. مستندًا إلى تراث كوميديا ديلارتي العريق، قاد ناردين المشاركين إلى فهم أعمق لفكرة القناع ليس بوصفه زينة تُضاف للممثل، بل باعتباره وسيلة لإعادة اكتشاف طاقة الجسد، وكسر الحواجز التقليدية بين الممثل ونفسه أولاً، ثم بينه وبين المتلقي.

قال ناردين إن القناع يمنح الممثل قوة إضافية لأنه يحرره من "الذات الاجتماعية" ويجعله أقرب إلى "الذات المسرحية". وأشاد بالتجربة في مصر باعتبارها مختبرًا مفتوحًا أمام شباب مبدعين يملكون حماسة حقيقية لخوض مغامرات الأداء.

خالد عبد السلام: من القاهرة إلى الإسماعيلية

تميّزت هذه الدورة من المهرجان بانفتاحها على المحافظات، حيث أقيمت ورشة الإلقاء علم وفن للفنان خالد عبد السلام في مدينة الإسماعيلية.
عبد السلام أكد أن الورشة مثّلت واحدة من أنجح تجاربه، إذ لامس احتياج شباب الأقاليم للتدريب الجاد على تقنيات الصوت والإلقاء وضبط الأداء. وأوضح أن نقل الورش إلى خارج العاصمة خطوة مهمّة لترسيخ رسالة المهرجان باعتباره حدثًا قوميًا يخص المسرحيين في كل ربوع مصر، لا في القاهرة وحدها.

آرثر مكاريان: الأداء التوافقي ورحلة "وجهات النظر"

أما المخرج الأرمني آرثر مكاريان، فقدّم ورشة الأداء التوافقي مستندًا إلى كتاب وجهات نظر الذي وضعته آن بوغارت وتينا لاندو، وهو من المراجع البارزة في التدريب المسرحي العالمي.
خلال أربعة أيام، درّب مكاريان المشاركين على ستة عناصر أساسية هي: الفضاء، الشكل، الزمن، الحركة، العاطفة، والقصة. وقدّم مجموعة من التمارين الجماعية والفردية التي سمحت للمتدربين بخوض تجربة متكاملة في الأداء، مؤكدًا أن الالتزام والجدية التي أظهرها المتدربون جعلت من الورشة تجربة ثرية.

ورغم اختلاف اللغة، كانت لغة الجسد هي الجسر الأساسي للتواصل، وهو ما يؤكد الطبيعة الكونية للمسرح باعتباره فنًا قادرًا على تخطي الحدود الجغرافية والثقافية.

الورش: فضاء للحوار والتجريب

ما يجمع هذه الورش، على اختلاف موضوعاتها وأساليبها، هو إيمانها العميق بأن المسرح ليس نصًا يُقرأ أو عرضًا يُشاهد فقط، بل هو ممارسة يومية تحتاج إلى إعادة اكتشاف وتطوير دائمين. ومن خلال هذه الورش، لمس المشاركون قيمة الحوار العابر للثقافات، إذ التقى طلاب المسرح المصريون بنقّاد من أثينا، ومدرّبين من روما، ومخرجين من يريفان، إلى جانب خبراء مصريين حملوا روح المكان المحلي إلى قلب التجريب العالمي.

المهرجان مدرسة حيّة

مع ختام سلسلة الورش، أكّد المشاركون أن مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي لم يعد مجرد منصة لعرض التجارب المسرحية، بل أصبح مدرسة حيّة تقدّم تدريبًا معمليًا يعيد تعريف العلاقة بين الممثل وأدواته، وبين المسرح والعالم المعاصر.

لقد أثبتت هذه الدورة أن التجريب ليس شعارًا، بل ممارسة ملموسة تتجسد في هذه اللقاءات اليومية بين معلمين وتلاميذ، بين محترفين وهواة، وبين ثقافات متعددة تبحث عن لغة مشتركة. وبذلك يرسّخ المهرجان مكانته كواحد من أهم الملتقيات المسرحية التي تجمع بين العرض والتجريب والتدريب، ليظل حاضرًا كجسر للتواصل والتجديد في المشهد المسرحي العربي والدولي.