منذ اللحظات الأولى التي زُرع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي، كان واضحًا أن حدوده لم تكن يومًا سوى خطوط مؤقتة، ترسمها القوة ثم تمحوها القوة ذاتها كلما سنحت الفرصة. لم تكن فلسطين بالنسبة لمجرمي المشروع الصهيوني مجرد قطعة أرض، بل بوابة مفتوحة على الجسد العربي بأسره، مدخلًا لاستباحته ونهشه وتقويض بنيانه. ولهذا فإن ما يجري اليوم في غزة، وما يجري في الضفة الغربية، ليس معركة محصورة في جغرافيا محدودة، بل هو مشهد متكرر من مشاهد الوحشية التي تستهدف الدول العربية كلها.
تركوه ـ من نعرفهم ـ ينهش في فلسطين: هذه العبارة تختصر مأساة عقود من الصمت والتواطؤ. يُنهش الجسد الفلسطيني قطعة بعد أخرى؛ من غزة إلى الضفة، ومن الضفة إلى غزة، حتى باتت فلسطين جرحًا مفتوحًا لا يندمل، بينما الوحش الصهيوني الجائع لا يكتفي أبدًا. من يتصور أن شهيته ستتوقف عند هذا الحد، واهم. فكما قال الملياردير الأميركي اللبناني الأصل توم باراك، أحد أقرب الدوائر للرؤساء الأميركيين"كل الحدود مفتوحة لإسرائيل". إنها شهادة من الداخل الغربي الأمريكي الصهيوني، تؤكد أن حدود المشروع التوسعي ليست جغرافية بل أيديولوجية، وأن العدو يرى في وجودها ذريعة لاستباحة كل ما حولها.
حين نصف الكيان الصهيوني بالوحش، فنحن لا نستعير مجازًا لغويًا بقدر ما نصف واقعًا نراه ونعيشه على مدار اليوم. فالوحش لا يكتفي بمصّ دماء ضحاياه من الأطفال والنساء والعجائز والشباب، بل يجد في النهش لذة لا تنتهي. غزة، التي تحولت إلى أكبر سجن مفتوح في التاريخ، تُقصف ليلًا ونهارًا، ويُقتل أهلها بالجملة، ثم يُمنع عنهم الدواء والغذاء والماء. الضفة الغربية تُحاصر، يُهدم عمرانها، يُسلب ترابها، ويُطارد شبابها في شوارع نابلس وجنين ورام الله. والقدس تُبتلع بيتًا بيتًا، شارعًا شارعًا، حتى لم يبقَ فيها ما يُذكّر بأهلها الأصليين إلا بصمات حجر يصرّ أن يقاوم. هذه ليست تفاصيل متفرقة، بل حلقات متصلة في مسلسل النهش. ومن الخطأ القاتل أن نتوهم أن النهش سيتوقف عند حدود فلسطين. فالوحش لا يعرف الشبع، وخصوصًا إذا تُرك بلا مقاومة حقيقية.
أخطر ما في المشهد الراهن أن بعض العرب ينظرون إلى فلسطين كأنها "قضية فلسطينية"، شأن داخلي لا علاقة له بجغرافيتهم أو أمنهم. لكن الحقيقة أن فلسطين قلب الأمة، وسقوطها يعني سقوط الأطراف تباعًا. الجسد إذا نُهش قلبه، فلن يبقى للأطراف حياة. فكل التجارب التاريخية تثبت أن الكيان الصهيوني لا يرى في العرب سوى فرائس. من مصر إلى لبنان، من سوريا إلى العراق، من الأردن إلى الخليج، ظلّت أطماعه تتحرك كأنياب حادة تبحث عن موضع لتغرس نفسها فيه. ولعلنا نتذكر ما قاله بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل "حدود إسرائيل حيث تصل أقدام جنودها". هذه العقيدة هي جوهر المشروع، وما قاله توم باراك اليوم ليس إلا إعادة صياغة لتلك الفكرة: الحدود مفتوحة، والنهش مستمر.
حين تُترك غزة وحدها تواجه محرقتها، وحين تُترك الضفة وحدها تواجه الاقتحامات والمستوطنات، فإن الرسالة التي تصل إلى إسرائيل واضحة: الطريق سالك للتمدد أكثر. الصمت العربي والدولي، بل أحيانًا التواطؤ المباشر، لا يوقف الجرائم بل يمنحها شرعية إضافية. هنا نستحضر ما قاله المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: "إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة، وكلما لاقت صمتًا أو مساومة ازدادت شراسة".
إن الصمت العربي ليس فقط خيانة لفلسطين، بل هو أيضًا انتحار بطيء. لأن الوحش الذي ينهش فلسطين اليوم، سيأتي غدًا إلى بقية الجسد العربي. وما نراه من محاولات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل تحت مسمى "السلام" ليس إلا فتح الأبواب للنهش القادم.
لا ينبغي أن نغفل أن إسرائيل لم تكن لتتحول إلى هذا الوحش لولا أن هناك من يطعمه ويحرّضه ويغطي جرائمه. الدعم الأميركي ـ الغربي لإسرائيل ليس دعمًا عابرًا، بل هو جزء من مشروع استعماري عالمي. إسرائيل هي الذراع الأمامية لهذا المشروع في المنطقة. لذا فإن "النهش" لا يتم فقط بالمدافع والصواريخ الإسرائيلية، بل أيضًا بالغطاء السياسي والاقتصادي الغربي.
حين تُقصف غزة وتُباد عائلات كاملة، نجد في واشنطن ولندن وباريس من يبرر ذلك بأنه "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس". أي دفاع؟ وأي نفس؟ هذا هو قلب الاستعمار في صيغته الجديدة: استعمار يلبس ثوب القانون الدولي وحقوق الإنسان، بينما ينهش الشعوب بلا رحمة.
في ضوء ذلك كله، تصبح فلسطين خط الدفاع الأول عن الأمة العربية. إذا سقطت، فلن يكون هناك ما يمنع الوحش من التهام بقية الجسد. من يتصور أن أمن الخليج أو شمال أفريقيا أو وادي النيل في منأى عن الخطر، إنما يخدع نفسه. ولعلنا نتذكر الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، أو الغارات الإسرائيلية المتكررة على سوريا، أو التهديدات المستمرة لمصر والأردن. كلها شواهد على أن النهش لا يتوقف.
إن الذين يظنون أن بإمكانهم عزل أنفسهم عن فلسطين، سيكتشفون متأخرين أن النار التي بدأت هناك ستمتد إليهم. الجسد العربي واحد، والجراح فيه مترابطة. لكن القصة ليست يأسًا مطلقًا. فكما أن الوحش لا يعرف الشبع، فإن الشعوب لا تعرف الاستسلام. من غزة خرجت مقاومة أربكت إسرائيل رغم فارق القوة الهائل. من الضفة خرج شباب يقاتلون بصدورهم العارية، مذكّرين أن الأرض لا تُحرر إلا بالتضحيات. هذه المقاومة، رغم نزيفها، هي الدليل على أن الجسد العربي لم يمت بعد. بل هو يقاوم في قلبه، في فلسطين، منتظرًا أن تلتحق به بقية الأطراف.
تركوهم ينشهون في فلسطين، فماذا كانت النتيجة؟ غزة تحترق، الضفة تُسلب، القدس تُبتلع. لكن الخطر الأكبر أن الجسد العربي كله يُنهش تباعًا. فلسطين ليست "هناك"، فلسطين هنا، في كل بيت عربي، في كل شارع عربي، في كل ضمير عربي.
إننا إذا لم ندرك أن معركة فلسطين هي معركتنا جميعًا، فإننا نسلم أنفسنا للنهش القادم. والوحش الصهيوني، كما شهد توم باراك، يرى كل الحدود مفتوحة أمامه. وحدها المقاومة، ووحده الوعي بأن فلسطين جزء من الجسد العربي، يمكن أن يغلق هذه الحدود ويوقف أنيابه عن التمدد. فلتكن صرخة اليوم: لن نترك فلسطين تُنهش وحدها، لأنها نحن، ونحن هي.
--------------------