05 - 09 - 2025

حكايات من بلدنا .. أهرام – أخبار - جمهورية

حكايات من بلدنا .. أهرام – أخبار - جمهورية

حكايات من بلدنا، وبلدنا لمن لا يعرفها، مدينة صغيرة تتفتح كزهرة ماء على ضفاف بحيرة تحمل اسمها؛ المنزلة، تنتشر على سطحها أشرعة المراكب في البكور كأجنحة طيور نورس تبحث عن رزقها على وقع ضربات مجاديف الصيادين، فإذا ما عادوا عشية تراصوا جنبًا إلى جنب حذاء الشاطئ، كأنما يبحثون عن الأُنس والدفء.. وكغيرها من المدن، مسكونة بالحياة والحركة، وخلف كل باب، وتحت كل حجر، حكايات لا تنتهي.. حكايات من عمر الزمان.. ربما تسنح الأحوال لنقص شطر منها..

كان ذلك في بواكير الشباب، كنت نهمًا للقراءة والاطلاع، كلما رأيت ورقة تناولتها ورحت أقرأها.. جريدة الأهرام وردٌ يومي ثابت إلى جانب ما تطوله الأيدي من كُتب على سبيل الاستعارة في أغلب الأحيان، إلى جانب مجلة أو مجلتين شهريًا مما يصل يدي من مال. 

كان "كشك عباس" لبيع الجرائد والمجلات والقريب من محطة مصر، حجر الزاوية في بحثي عما يصل ذلك البلد الصغير البعيد من كتب ومجلات، كشك عريض بُني اللون بواجهتين يسمح لأكثر من شخص بالوقوف فيه، يليه في الشهرة، "كشك منصور" بجوار الجامع الجديد، وإن كان أصغر حجمًا ويتسع لشخص واحد فقط، غالبًا ما تكون إحدى بناته، بينما يمضي هو يطوف الشوارع متأبطًا رزم الجرائد والمجلات، نحيفًا أشد ما تكون النحافة، قصيرًا غاية القِصَر، حتى تظنه يكنس الأرض بحمله من الجرائد، فيغمزه هذا بكلمة، ويلمزه ذاك بتعليق، فلا يلتفت ولا يرد، كأن الأمر لا يعنيه، يمضي في طريقه بوجه جاد صارم الملامح، يغسله العرق، وينادي بصوت رفيع مهزوم "أهرام - أخبار – جمهورية".

"أهرام – أخبار – جمهورية" نداء يحمل رسمًا زمنيًا متسلسلاً؛ في البدء كانت الأهرام عام 1875، تلتها صحيفة الأخبار اليومية عام 1952، ثم الجمهورية في 7 ديسمبر 1953.

ترتيب جعله الشاعر المتميز فتحي قوره بشطارته وعفويته أغنية تفيض بالحيوية والشقاوة في فيلم "بائعة الجرائد" بطولة ماجدة، ونعيمة عاكف، وسناء مظهر، إنتاج عام 1963، غنى الثلاثة بأداء مرح أغنية "حطة يا بطة يا فلفل شطة"؛ 

حطة يا بطة يا فلفل شطة.. إن جت قطة بيجري الفار

شد لحافك نام واتغطى.. واطحن بن وولع نار

دا إحنا يا واد بنبيع أخبار.. أهرام أخبار جمهورية

اطحن بن وولع نار.. أهرام أخبار جمهورية"

ألف فتحي قوره أكثر من 5000 أغنية، منها ما ارتبط بمناسبات مختلفة؛ في الأفراح "دقوا المزاهر" غناء فريد الأطرش، وفي الثانوية العامة وكل تفوق "وحياة قلبي وأفراحه" بصوت عبد الحليم حافظ، وفي سبوع المولود "حلقاتك برجلاتك"، وللسياحة "الأقصر بلدنا بلد سواح" غناء محمد العزبي مع فرقة رضا للفنون الشعبية.

وغيرها من أغاني ما زالت تعيش بيننا؛ قلبي ومفتاحه، وعلشان ما ليش غيرك غناء فريد الأطرش، يا سيدي أمرك وبكره وبعده غناء العندليب، يا سلام على حبي وحبك دويتو شادية وفريد، معانا ريال فيروز وأنور وجدي، ما بيسألش عليا أبدًا ومحمد عبد المطلب، وغيرها. 

ولا أعرف إن كان فتحي قوره هو صاحب النداء العفوي "أهرام، أخبار، جمهورية"، أم أنه التقطه من أفواه باعة الصحف المتجولين في بر المحروسة وحوله إلى أغنية، باعة ننتظرهم كل صباح من أمثال "منصور" ومنافسه اللدود "الدمرداش"، الذي كان يمر على أبي كل صباح بجريدة الأهرام فينقده ثمنها، الذي ارتفع من قرشين في السبعينيات إلى ثلاثة قروش في الثمانينيات، وعليه العوض ومنه العوض، والناس تقول قرش مرة واحدة!!.

ومع أن زمن مناولة الجريدة ودفع ثمنها لا يزيد عن ثوانٍ معدودات، إلا أنها لم تخل من دعابة أو تعليق سريع على الأحداث سياسية كانت أو رياضية، والتي مهما ارتفعت حرارتها لا تخلو التعليقات من ابتسامات، ولعل سر هذا الشعب العظيم أنه يحوّل كل ما يواجهه إلى "طبق سلطة" متنوع الألوان والنكهات؛ الطماطم الحمراء بلون الدم، والفلفل الحار بلسعته، وورق البقدونس والشبت ليترك أثرًا لطيفًا في الفم، مع رشة ليمون توازن الطعم. سلطة مصرية كاملة، فيها المرّ والحراق واللطيف، تمامًا كما في الحياة نفسها.

كانت الجريدة والمذياع (الراديو) هما نافذتا رجل الشارع إلى العالم. يحفظ مواعيد برامج الراديو من "الشرق الأوسط" و"البرنامج العام" إلى "صوت العرب". تعلّق المستمعون بأصوات خالدة مثل صفية المهندس وفاروق شوشة وأبلة فضيلة وعمر بطيشة، فأصبح الراديو فردًا من العائلة. وبينما كنت وجيلي من الشباب نتابع إذاعة "مونت كارلو"، كان أبي يصغي إلى دقات ساعة "بيج بن" من إذاعة لندن، ثم إلى نشرات أخبار بأصوات عربية رخيمة، كأنها تصلنا من بعيد وتقول لنا؛ نحن لسنا وحدنا في هذا العالم.

لم يكن رجل الشارع يغير عادته في إعداد طبق السلطة المعتبر بخليط ما يجري من أحداث مُتبلاً بتعليقاته اللاذعة، التي تحول كثير منها إلى أمثال شعبية، يرسل من خلالها رسائل نقد غير مباشرة في كل مجالات الحياة، والتي فهرسها ورتبها وشرحها العلامة أحمد تيمور في كتاب بعنوان (الأمثال الشعبية)، و(مجمع الأمثال) لأبو الفضل أحمد الميداني، تحقيق الأستاذ محمد على قاسم، و(أمثال وتعبيرات شعبية مصرية) تأليف عالم الاجتماع الدكتور سيد عويس، وكتاب الدكتورة عزة عزت (الشخصية المصرية في الأمثال الشعبية)، ولعل هذه الكتب وغيرها قد أجمعت على شطارة المصري في التعامل مع نظم الحكم المختلفة عبر عصور طويلة عبر التاريخ وقدرته على إبداء رأيه بطرق تجنبه المواجهة.

لم يكونوا مجرد بائعين يصدح صوتهم بنغمات رشيقة؛ "أهرام-أخبار-جمهورية"، ولا كانت الصحف مجرد أوراق؛ كانوا ملامح زمن، وصوت مدينة، وذاكرة وطن. في نداءاتهم كانت الحكايات، وفي حكاياتهم كنا نحن.

نكمل المقال التالي
----------------------
بقلم:
 د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حكايات من بلدنا .. أهرام – أخبار - جمهورية