يوما بعد يوم تتصاعد حدة التهديدات الاسرائيلية بشن هجمة عسكرية تدميرية على مدينة غزة، وما يحدث على أرض الواقع ينذر بكوارث إنسانية غير مسبوقة، فما تنتهجه آلة الحرب والدمار الإسرائيلية بهذه الأيام ينم عن نية تدمير مدينة غزة وقتل أهلها وتشريد ما تبقى منهم. ما يحدث عبارة عن خطة تدمير وإبادة مدروسة وممنهجة، فالطيران الحربي بكافة أنواعه زاد من وتيرة قصفه وأحزمته النارية فائقة القوة التدميرية، ومدافعه الثقيلة تسقط قذائفها وحممها من كل صوب وحدب، وريبوتاتها المفخخة والمحملة بأطنان من المتفجرات تقضي على ما تبقى من مباني ومنشآت وتسويها بالأرض.
هذا حال الحجر، فكيف البشر وما يعانيه من ويلات، فالمناظر تقطع القلوب وتقشعر لها الأبدان ويشيب لشدتها وهولها الولدان، تنظر حولك فترى أجسادا مقطعة وممزقة ومحروقة وقطعا بشرية متناثرة هنا وهناك.
ما يحدث لن يستطيع أي عقل بشري أن يستوعبه، فهذه الوحشية المفرطة بحق البشر والشجر والحجر غير ممكن أن تحدث للإنسان من قِبل أخيه الإنسان.
في مدينة غزة ترى العجب العُجاب، بشر شاحبو الوجه بشدة، أجساد هزيلة للغاية، يحملون نظرات تائهة وعقول شاردة، هائمين على وجوههم في الشوارع لا يعرفون أين يذهبون او ما سيفعلون، وتنطبق عليهم ما قيل "سكارى وما هم بسكارى ".
غزة تعيش أسوأ كارثة تمر على البشرية المعاصرة جمعاء، فهي تعاني مجموعة كوارث متشابكة ومعقدة لأبعد الحدود، لك أن تتخيل انه يعيش أكثر من مليون و 300 ألف نسمة بلا مأوى بلا طعام بلا شراب بلا دواء وعلاج، بلا أمن وأمان.
جميع المنظومات انهارت "الصحة، التعليم، الاقتصاد، القيم، الأخلاق، الأمن .. الخ ".
أي مجتمع إذا فقد أو مجرد عانى من تدهور في إحدى هذه المنظومات، يقال إنه مجتمع يعاني من كارثة إنسانية، بمعنى إذا حدث نقص وصعوبة في الحصول على الغذاء أو المياه أو الدواء أو التعليم أو المأوى ...الخ. فما بالكم بغزة المدينة المنكوبة حيث اجتمعت عليها كل هذه الكوارث مجتمعة في وقت واحد، وفوق كل هذا أعتى وأشرس آلة حربية تدميرية تلاحق ما تبقى من حجرها وشجرها وبشرها قتلا وقصفا وتدميرا وتفجيرا وحرقا.
سؤال برئ يطرح نفسه ما هو المطلوب من أهل غزة ليستيقظ ويتحرك الضمير الإنساني، ما هو المطلوب من أهل غزة لتمتد إليهم يد الرحمة والإنسانية.
لم نعد بغزة نستطيع أن نتحمل أكثر...
النساء والأطفال والشيوخ والرجال بكت حتى جفت الدموع...
ما دفعني أن اكتب هذه الكلمات وقد كنت قد اعتزلت الكتابة موقف حدث أمامي أبكاني ومزق نياط قلبي، رجل في الخمسينيات من عمره تبدو عليه بعض من بقيا عز سابق ويحمل في داخله عزة نفس لا توصف، تحدث عن كارثية الظروف التي يمر بها أهل غزة وحالة اليأس والإحباط الشديدين التي يعاني منها أهل المدينة مما سلبها عقولها وشل أدمغتها، وكذلك حالة العوز الشديد والاحتياج لكل شيء، ومنها عرج لوضعه الأسري واحتياجات أطفاله وبناته التي لا يستطيع تلبيتها، وفجأة بعد حالة من البكاء المتقطع صدمني بأن قال دكتور لو سمحت أنا عاوز منك تدعي لهنا بعض الصحفيين ومراسلي القنوات العربية والأجنبية، سألته ببراءة لماذا حابب تحكي كلمة للعالم؟, فكان الجواب لا. فسألته لماذا فقال بدي انتحر أمام كاميرات الصحفيين وليشاهدني العالم أجمع وأنا أتعذب حتى الموت عله يصحو الضمير الإنساني ويتحرك، ولكن أمانة برقبتكم يا دكتور ديروا بالكم على أسرتي وأطفالي، واللا أقولك شي دكتور.. الأفضل أجيبهم وأتناول السم أنا وهم وننتحر جميعا فلا يبقي أي منا في عذاب الدنيا، ولنرتاح من قسوة هذا العالم. لم أتمالك نفسي من البكاء وقتها وبكى كل من كان بالمكان. الحقيقة الموقف كان صعبا على كل من يحمل ضميرا ورحمة وإنسانية أن يرى ويسمع هذا الكلام من رب أسرة ضاقت به سبل الحياة، ولم يستطع أن يوفر ابسط مقومات الحياة لأبنائه.
لسان حال الناس بغزة يستصرخ ما تبقي من الضمير الإنساني ويتوسل بعض الرحمة وقليلا من الإنسانية.
---------------
بقلم: د. محمد راضي
غزة 31/8/2025