قال الفيلسوف الإستراتيجي الكبير ليدل هارت في كتابه عن " الإستراتيجية ": " كان الأنبياء يتعرضون دائماً للقذف بالحجارة ، وكان ذلك هو نصيبهم من الدنيا ، واختبار لمدي ثقتهم برسالتهم.. ولكن إذا تعرض الزعيم السياسي للقذف بالأحجار ، فإن ذلك سوف يثبت أنه فشل في وظيفته بسبب خلل في حكمته ، أو نتيجة الخلط بين وظيفته وفكرة النبوة " .
وأضاف: " يقول الأغبياء أنهم يتعلمون من خلال التجربة، بالإستفادة من تجارب الآخرين ، وقد كان ذلك ما قاله بسمارك ، رغم أنه لم يكن تعبيراً عنه ، ولكن هذه العبارة تحمل معان كثيرة في المسائل الحربية " .
ويشرح ليدل هارت بإسهاب ما يوضح أن "الجندي" لا يمكن أن يتعلم بالتجربة ، لأن مهنة " الجندية " لا يمكن إعتبارها "مهنة" بالتعبير الدقيق ، وإنما مجرد "وظيفة مؤقتة" ، حيث أنه لا توجد فرصة للجندي كي يمارس بشكل مستمر "مهنته" التي هي "الحرب" ، وربما تنتهي مدة خدمته بالكامل دون أن "يجرب" هذه المهنة .
وقد أصاب ليدل هارت في وضع المقارنة، فالطبيب مثلاً، يمارس يومياً مهنته بما يسمح له الإستفادة من التجربة، وتصحيح الأخطاء بشكل مستمر ، وهو ما لا يتوافر للجندية، ثم أن تجارب الحروب الكبرى التي يمكن أن تعد بحق ممارسة لتنمية مهارات الجنود وتطوير النظريات القائمة، لا تحدث بتكرار يسمح بإعتبارها تجارب معملية، أو ممارسة للصواب والخطأ تسمح بإستخلاص الدروس.. أن خطأ القائد العسكري مرة واحدة، قد يؤدي إلي هزيمة ساحقة لبلاده، بينما قد لا يتجاوز خطأ الطبيب مجرد "ممارسة خاطئة" mal practice ، قد يعرضه لمؤاخذة تأديبية.
وكتطبيق معاصر علي الحرب الروسية / الأوكرانية، لا شك أن تطوير أوكرانيا سلاح " المسيرات " Drones ، تكتيكياً وإستراتيجياً، أتاح لها مواجهة جيش أكثر تطوراً ، وعلي وجه الخصوص لتعويض عدم امتلاكها لما تملكه روسيا من قاذفات بعيدة المدي. فقد أثبتت أوكرانيا مرونتها وقدرتها علي الإبتكار في استخدام "المسيرات" ، وكان آخرها تلك الضربة القوية التي قامت بها في شهر يونيو ٢٠٢٥ ، حين هاجمت في توقيت واحد عدة قواعد عسكرية في أعماق مختلفة من روسيا وصلت في آقصاها إلي منطقة سيبريا ، في عملية أطلق عليها إسم " شبكة العنكبوت" ، وقد وصلت الصدمة بالقادة الروس إلي حد إعتبار هذه العملية هجوماً إرهابياً، بل ووصل الحد ببعض المعلقين إلي اعتبارها "بيرل هاربور" الروسية .
ولم يكن مدهشاً أن تتم هذه العملية الكبرى بهذه القوة وعلي هذا النطاق الواسع ، بينما كانت تجري مباحثات تمهيدية بين الوفدين الروسي والأوكراني في تركيا لبحث ترتيبات السلام ، والذي بدأ في استانبول يوم ١٦ مايو وكانت من نتائجه الأولي إطلاق عدد كبير من أسري الحرب بين الطرفين .
لكل ما تقدم، يكون قرار الحرب علي درجة عالية من الخطورة ، يتحتم فيه علي الزعيم "القائد" ، أن يتحلي بآعلي قدر من الحكمة، وأن يتخلي عن ادعاء النبوة التي تتيح له وحيا خاصا يدله علي طريق الإنتصار .. إن وحيه الوحيد في تلك الحالة لن يكون إلا شيطان الغرور والجهل الذي يودي به، وبأمته إلي الضياع .
ولكن ادعاء النبوة، واستلهام الوحي لا يقتصر فقط علي الجنرالات، ولا يصب تأثيره علي زمن الحرب وحده، وقد عرفت مصر الكثير من ذلك في زمن الحرب وأزمنة الإستبداد.
لقد حجز التاريخ لمصر عبر أطوارها الزمنية المختلفة، مركزاً مؤثراً يرتكز أساساً علي موقعها الجغرافي الفريد، لدرجة أنه قد لا نتجاوز إذا ذكرنا إن تجارب مصر في كل عصر هي ذلك التفاعل المستمر بين ميراث التاريخ العميق، وفروض الواقع الجغرافي الفريد .
ومن المؤكد أن دراسة شاملة لتطورات السياسة المصرية عبر ذلك التاريخ الطويل، قد تبدو ضرباً من الحماقة في مقال محدود مثل هذا، ولكن بعض المواقف تستدعي التأمل وربما التعليق السريع علي بعض ما يتردد من هجوم علي ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، فأغلبه يعاني من فقدان الذاكرة الوطنية، التي تصل إلي حد جلد الذات، ونزع أي قيمة أو انجاز لتلك التجربة الفريدة ، والعجيب أنها تصدر عن بعض "النخب" التي ما كان لها أن تكون نخبة لولا تلك الثورة، وقد زادت حمي هذا الهجوم بشكل جعلني أكتب ذات يوم: " يبدو أن آغلب النخب المصرية، كانوا من أبناء وصيفات القصر المصري، وأغواته، وكلهم أبناء وآحفاد باشوات مصر، مساكين صودرت أملاكهم الشاسعة، رغم أن آكثرهم ثراء لم تكن أسرته تمتلك إلا بعض قراريط من الطين في طنطا، تكفي بالكاد أن تستر عورتهم" .
هؤلاء لم يقرأوا التاريخ جيداً ، فمثلاً في تصريح منشور لونستون تشرشل وجدته أثناء بحثي في إعداد كتابي "دبلوماسية السويس"، قال تشرشل ناصحاً لإيدن: "إن المصريين أحط من الهمج الذين عرفناهم" وتمني أن "يلقن المصريين المتعلمين بالذات درساً لن ينسوه لأحقاب قادمة حتي يظلوا خاضعين"، وقد علق سكرتير إيدن عام ١٩٥٣ علي ذلك بأن: "تشرشل كان يرغب دائماً في تأديب المصريين" .. تلك كانت نظرة الإستعمار إلي شعب مصر ونخبه .
وقد كان المراسل الصحفي كيرك باتريك، مراسلاً صحفياً أمريكياً في القاهرة منذ عام ٢٠١٠، وكتب كتاباً عن "الربيع المصري" حمل العديد من أسرار تلك الفترة الساخنة من التاريخ المصري، ولا أعرف إذا ما كانت له ترجمة عربية، لكن بعض ما ورد فيه يمثل فضائح سياسية وأخلاقية، وقد لا تكون حقيقية، ولكنها في الإطار التاريخي ستظل واحدة من الشهادات الهامة، وقد آورد في الكتاب إنه التقي في مصر مع الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، الذي اعترف بأنه يتفهم شكاوي المصريين من دوره في عملية السلام مع إسرائيل، وأن واشنطن كانت علي الدوام تدعم الديكتاتورية في مصر حماية لإسرائيل، وذكر أن السادات قال: "أنه سيوقع علي أي شيئ يقترحه الرئيس كارتر ، دون أن يقرأه" .
ومن يقرأ كتاب السادات عن سيرته الذاتية "البحث عن الذات"، سوف يكتشف بدون عناء ذلك الخلط المدهش ما بين "الوظيفة" و "الرسالة"، فقد كان مثلاً كثير الحديث عن "دولة المؤسسات"، إلا أنه في مفاوضات "كامب ديفيد" كان يضيق بأي رأي لأي عضو في الوفد التفاوضي المصري، فهو القائد وهو الوحيد الذي يعرف كل شيء، وكذلك كان لا يمل الحديث عن "سيادة القانون"، بينما ختم حياته وقد اعتقل كل ألوان الطيف السياسي والديني في مصر ، وبسبب ذلك الخلط استحق – كما قال ليدل هارت – أن يقذف البعض ذكراه بالحجارة .
وقد ذكر كيرك باتريك إنه قبل أن يبدآ مهمته في القاهرة، قال له الخبراء في واشنطن بالتأكيد لن يحدث شيء ذا بال في مصر مبارك، وبالتالي لن يحدث شيء في المنطقة العربية لأن مصر هي التي تحدد القالب الذي تتجمد فيه المنطقة ، وأن شعبها المهاود لن يتحدي أبداً حكامه الفاسدين ، وهؤلاء الحكام لن يلبوا أبداً إحتياجات الشعب التي تتزايد بشكل تصاعدي ، وأن مصر تتراجع في كل شيء، خاصة في الاقتصاد والسياسة والثقافة ، وبشكل غير قابل للتعديل .
قال باتريك: "إن كل مستبد عربي لديه "عز" في تلك الأيام (يقصد المهندس عز رجل الأعمال والقيادي البارز في الحزب الوطني الحاكم).. وآن تلك النماذج من "عز" تتبع النصائح الغربية، وتفتح الإقتصاديات المملوكة للدولة كي تخضع لقواعد المنافسة والأسواق الحرة، ولكن في نفس الوقت لم يبذل الحكام المستبدون نفس الجهد للإنفتاح السياسي، آو حتي إخضاع كبار مسؤوليها الفاسدين للقانون.
ووصل الحال بمبارك إلي قمة الخلط بين "الوظيفة" و"الرسالة"، رغم أنه يصدق عليه القول بأنه تعلم "مهنة الرئاسة" لفترة كافية أثناء شغله منصب نائب الرئيس السادات ، ولكن فيما يبدو أن هذه المهنة الرفيعة "رئيس الدولة" لا تصلح فيها قاعدة التجربة والخطآ أثناء ممارسة الوظيفة In job training ، لأنها تعتمد علي قواعد أخري أهمها : الإيمان بدور المؤسسات ، الإفصاح والشفافية ، الممارسة الفعلية لفكرة الديمقراطية وتداول السلطة .. إلخ .
إن مهنة "الرئاسة" تلتقي مع مهنة "الجندية" في مثال ليدل هارت وبسمارك من حيث أنها ليست مهنة تكتسب بالتجارب السابقة ، أو بطول ممارستها ، وأن خطأ الزعيم السياسي ، مثل القائد العسكري قد يكلف أمته هزيمة ساحقة، وقد جربت مصر ذلك في هزيمة يونيو ١٩٦٧، حين أدرك الزعيم – وأن كان متأخراً – أنه ليس إلا إنسان محدود القدرات، مهما بلغت براعته وتعددت إنجازاته، وأن مسؤولية الحكم والقيادة لابد وأن تتوزع علي عناصر خبرة، في دولة مؤسسات، وأنه ليس كما كان يصفه بعض الشعراء – نبياً – أو لا ينطق عن الهوي.
-------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق