01 - 09 - 2025

المثقف المصري بين الصمت والتواطؤ في لحظة الإبادة

المثقف المصري بين الصمت والتواطؤ في لحظة الإبادة

كشفت الإبادة الجماعية التي يمارسها جيش العدو الصهيوني في غزة أن المعركة لم تعد مجرد مواجهة عسكرية بين مقاومة محاصَرة تسعى لتحرير وطنها ويُمارَس عليها سلاح القتل جنبًا إلى جنب مع سلاح التجويع، وبين جيش استعماري مدجج بالسلاح ومدعوم شرقًا وغربًا اقتصاديًا وسياسيًا وإعلاميًا؛ بل تحولت إلى اختبار شامل للضمير الإنساني، ولصوت المثقفين والمبدعين والفنانين والكتّاب الذين طالما ادّعوا أنهم حراس القيم الإنسانية و"ضمير الأمة". لكن ما حدث في الساحة العربية عامة والمصرية خاصة كان أقرب إلى صدمة أخلاقية: صمت شبه عام، تواطؤ بالسكوت، أو اختباء وراء لغة باهتة لا تصف الأشياء بأسمائها.

إن تاريخ المثقف المصري كان دومًا في قلب اللحظة: طه حسين وسلامة موسى كتبا في مواجهة الاستعمار، صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الأبنودي كانا أصوات المقاومة، يوسف إدريس لم يتردد في رفع صوته ضد القهر. في الفن أيضًا، من أم كلثوم إلى عبد الحليم حافظ، كان الصوت الفني متلاحمًا مع نبض الشارع العربي، حتى غدت الأغنية أداة تعبئة وطنية. وفي السينما، كانت كاميرات يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وداوود عبد السيد وغيرهم فاضحة للخزي والصمت المهين في مواجهة طغيان القمع والاستبداد.

لكن أمام إبادة غزة، ظهر جيل من المثقفين والفنانين والسينمائيين وكأنهم منزوعو الروح، يتهربون من مواجهة الحقيقة: أن جيش الاحتلال يرتكب جريمة ضد الإنسانية أمام عيون العالم. بعضهم اكتفى بجملة "نحن ضد الحرب"، وكأنها حرب بين طرفين متكافئين، متجاهلين أن هناك محتلًا وجلادًا في مواجهة شعب أعزل. والبعض الآخر غاب تمامًا، وكأن ما يحدث لا يعنيه.

الأدهى أن أصواتًا قليلة حاولت رفع الموقف إلى العلن ـ مثل الشاعر تميم البرغوثي الذي أطلق قصائد تفضح الصمت وتعيد المعنى إلى الكلمة، أو بعض الفنانين الشباب الذين شاركوا في وقفات رمزية في القاهرة ـ لكن هذه الأصوات بقيت فردية ومعزولة، ولم تتحول إلى موقف جمعي منظم كما كان يُنتظر. حتى في اتحاد الكتّاب أو النقابات الفنية، جاء الموقف باهتًا، لا يتجاوز بيانات إنشائية بلا فعل ولا أثر.

المسألة هنا ليست مجرد "إحجام فردي"، بل تعبير عن تحوّل عميق: المثقف في مصر لم يعد حرًا، بل صار جزءًا من منظومة رسمية أو شبه رسمية، يخشى الاصطدام بخطاب الدولة الذي يوازن بين رفض لفظي "للاعتداءات" وبين سياسة واقعية لا تريد مواجهة مباشرة مع إسرائيل. لذلك فضّل كثير من المبدعين الصمت خوفًا على منابرهم، أو حفاظًا على مكانتهم في الإعلام، أو اتقاءً لعقوبات غير معلنة.

ليس حيادًا هذا الصمت، بل هو شكل من أشكال التواطؤ، لأنه يترك دم أهل غزة معلّقًا بلا كلمة تضامن. والمثقف حين يختفي يصبح جزءًا من ماكينة التطبيع الرمزي: تطبيع القتل بالصمت. لذلك فإن الموقف العام للمثقفين والفنانين المصريين هو "عار وخزي"، لأنه يفرغ الثقافة من معناها الإنساني، ويحيلها إلى ترف جمالي أو وظيفة بيروقراطية.

الأمثلة على هذا كثيرة: غياب شبه كامل لأعمال فنية أو مسرحيات أو أفلام قصيرة تواكب المذبحة كما كان يحدث سابقًا، وندرة المقالات النقدية أو الأدبية التي تصرخ في وجه العالم ـ باستثناء محاولات فردية محدودة ـ فضلًا عن انشغال بعض "النجوم" ببرامج ترفيه ومسلسلات وأغانٍ تجارية، وكأن الدم الفلسطيني مجرد خبر عابر.

النقابات الفنية بدورها لم تصدر مواقف تليق بالحدث، واكتفت ببيانات عمومية تتحدث عن "السلام" و"رفض الحرب"، من دون تسمية الجلاد أو الإشارة إلى الإبادة كجريمة ضد الإنسانية. بيانات لا تختلف كثيرًا عن بيانات الدول الغربية التي تساوي بين الضحية والجلاد، وتحوّل الإبادة إلى "نزاع مسلح".

أما الكتّاب والروائيون الذين اعتادوا الظهور في الإعلام، فقد اكتفوا إما بالصمت التام، وإما بجمل فضفاضة مثل "نحن مع السلام"، متجاهلين أن ما يجري ليس "حربًا" بل عملية محو لشعب كامل. حتى على صفحات التواصل الاجتماعي، حيث الكلمة حرة وسريعة، بدا الغياب شبه كامل، وهو غياب لا يبرَّر إلا بالخوف من الاصطدام بالخطاب الرسمي أو فقدان المكانة الاجتماعية.

الفنانون أيضًا لم يكونوا أفضل حالًا. الغالبية العظمى من نجوم السينما والتلفزيون والمسرح الغارقين في صناعة الترفيه التزموا صمتًا ثقيلًا، وكأن غزة لا تُقصف يوميًا ولا يموت فيها آلاف الأطفال. بعضهم واصل نشر صور من كواليس مسلسلات جديدة أو حفلات خاصة، وكأن العالم من حولهم لم يتغير. هذا الموقف تحديدًا يُعتبر "خزيًا" لأنه يكشف انفصالًا كاملًا بين الفن كسلعة تجارية وبين الفن كقيمة إنسانية.

ومع ذلك كله لا يمكن إنكار أن هناك استثناءات قليلة: بعض الأصوات الشجاعة من شعراء أو كتاب شباب كتبوا نصوصًا غاضبة عبر الفيسبوك أو قرأوا قصائد في فعاليات تضامنية صغيرة، وأسماء فردية من الفنانين عبّرت عن موقف واضح ضد الاحتلال. لكنها تبقى محاولات فردية، لا تصنع تيارًا عامًا ولا تتحول إلى جبهة ثقافية حقيقية.

ومقابل هذا المشهد المخزي، نجد أن مثقفين وكتّابًا وفنانين عالميين غير عرب ـ مثل الممثلة الأميركية سوزان ساراندون أو المخرج كين لوتش ـ أعلنوا مواقف صريحة، وخسروا عقودًا ومصالح بسبب ذلك، لكنهم ظلوا أوفياء لضميرهم. والمفارقة أن مثقفًا مصريًا أو عربيًا، الأقرب جغرافيًا وإنسانيًا لغزة، يتقاعس عن كلمة قد لا تكلفه إلا شجاعة شخصية. ومن هؤلاء أيضًا: المفكر الأميركي نعوم تشومسكي الذي رأى أن ما يحدث في غزة "جريمة منظمة تتجاوز كل معايير الإنسانية"، والمؤرخ البريطاني إيلان بابي الذي أكد أن غزة تتعرض اليوم لنسخة محدثة من مشروع الإبادة المستمر منذ 1948، والمؤرخ والناشط الأميركي نورمان فنكلستين الذي اتهم الاحتلال صراحة بارتكاب جريمة إبادة جماعية. ومن فرنسا، عبّر الفيلسوف إتيان باليبار عن إدانته الشديدة، فيما شددت الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر على أن ما يحدث في غزة لا يمكن تبريره بأي ذريعة أمنية، بل هو تعبير عن عقلية استعمارية ترى الفلسطينيين فائضًا بشريًا قابلاً للإزالة.

هذه المواقف، التي جاءت من رموز فكرية وثقافية غربية، تكشف أن الضمير الإنساني ما زال قادرًا على مقاومة الدعاية الإسرائيلية السائدة في الإعلام الغربي، وأن بعض المثقفين، بخلاف كثيرين في العالم العربي، اختاروا أن ينطقوا بالحق مهما كان الثمن.

الخلاصة أننا أمام عار وخزي، لأن اللحظة اختبار أخلاقي، ولأن المثقف الذي لا يقف مع الضحية ضد الجلاد يفقد شرعيته كصوت إنساني. وهو الخزي والعار، لأن الأجيال القادمة ستتذكر أن المبدعين المصريين ـ إلا قلة شجاعة ـ اختاروا الصمت بينما كان الأطفال يُذبحون على شاشات العالم.
----------------------------
بقلم: محمد الحمامصي 

مقالات اخرى للكاتب

المثقف المصري بين الصمت والتواطؤ في لحظة الإبادة