لم تعد شاشات الفضائيات اليوم كما عهدناها، لم تعد منابر تحترم عقل المشاهد وتقدم محتوى رصينًا يقوم على المهنية والمسؤولية. المشهد تغيّر، وصار الإعلام محكومًا بالحسابات التجارية، حيث تسيطر عقلية الربح السريع على الرسالة الإعلامية التي يفترض أن تكون أساس وجوده.
أبرز الظواهر التي تكشف هذا التحول هي البرامج المؤجرة. لم تعد ساعات البث ملكًا للقناة، بل أصبحت مساحات للبيع أو الإيجار، يحصل عليها من يدفع أكثر، بغض النظر عن قيمة المحتوى أو رسالته. وهكذا تحوّلت بعض الفضائيات إلى منصات دعائية متنكرة في هيئة برامج، بينما غابت عنها الروح الإعلامية الحقيقية.
هذه البرامج تُدار بمنطق الممول لا بمنطق الصحفي. الرسالة تُفصَّل على مقاس المعلن، والجمهور يُعامل كسلعة لا كطرف أساسي في المعادلة الإعلامية. النتيجة واضحة: محتوى مكرر، باهت، بلا إبداع، ولا أثر لمعايير المهنة التي قامت عليها الصحافة والإعلام.
إلى جانب البرامج المؤجرة، تواجه الساحة الإعلامية وباءً آخر: هوس الترند. في عصر السوشيال ميديا، صار معيار النجاح هو عدد المشاهدات والتفاعلات، لا جودة المحتوى. أصبح صُنّاع البرامج يفتعلون الجدل والإثارة، حتى لو كان الثمن التضحية بالحقيقة.
الترند صار غاية في ذاته، لأنه يجلب الإعلانات والربح. لكن هذا السباق المحموم خلق إعلامًا سطحيًا يرفع التافه ويقصي العميق، ويستبدل النقاشات الجادة بموضوعات تافهة لا هدف لها سوى إثارة الضجيج اللحظي.
تتفاقم الأزمة مع ظاهرة الإعلاميين بلا تراخيص. بعض القنوات تستعين بأشخاص بلا أي تأهيل مهني، لا يخضعون لميثاق الشرف ولا لأي معايير، فيدخلون الشاشات بخطاب عشوائي يزيد الفوضى ويشوّه صورة الإعلام. ومع غياب الرقابة، صار كل من يملك حضورًا أمام الكاميرا يطلق على نفسه لقب "إعلامي"، ولو افتقر لأبسط أبجديات المهنة.
الأخطر أن هذه الفوضى تُبعد النقاش الحقيقي حول تطوير المهنة. بدل الحديث عن التدريب، والتقنيات الجديدة، وأخلاقيات الإعلام، ينشغل الجميع بمطاردة التريند وكأن الصحافة أصبحت صناعة للجدل لا لنقل الحقيقة.
استمرار هذا النهج يعني شيئًا واحدًا: فقدان الجمهور الثقة بالإعلام وتآكل دوره الاجتماعي. الإعلام الذي كان سلطة رابعة تحول إلى تابع لمنطق السوق والإيجارات.
لكن الحل موجود، إذا توفرت الإرادة: ضبط ظاهرة البرامج المؤجرة وفق معايير مهنية صارمة تمنع تحول القنوات إلى واجهات دعائية.
إلزام الإعلاميين بالحصول على التصاريح والتأكد من تأهيلهم المهني قبل الظهور على الشاشة.
تفعيل برامج التدريب المستمر وتعزيز الالتزام بميثاق الشرف الإعلامي.
إعادة الاعتبار للجودة عبر محتوى متوازن يجمع بين العمق والجاذبية، بعيدًا عن فوضى الترند المفتعل.
إنقاذ المهنة لم يعد ترفًا، بل ضرورة عاجلة. فإما أن يستعيد الإعلام مكانته كسلطة رابعة تحاسب وتثقف، أو يظل مجرد أداة للترويج والضجيج.
-----------------------------
بقلم: إبراهيم خالد