28 - 08 - 2025

"عاركة" لندن في جاردن سيتي !

في بداية أزمة التهجم علي بعثاتنا الدبلوماسية في الخارج ، سارعت بكتابة مقال نشرته صحيفة المشهد الغراء  يوم 18 أغسطس الجاري ، وقد جاء فيه:

"خامساً : مع التسليم بالحصانة القانونية لمبني  البعثة ، إلا أن هذه الحصانة ليست مطلقة ، وهي تخضع بلا شك للتقييم الدستوري والقانوني لنطاق هذه الحصانة. وفي أغلب الحالات القانونية تسقط الحصانة في حالة التلبس بإرتكاب جريمة وفقاً لقانون الدولة المستقبلة .

سادسا: أرحو ألا يكون صحيحاً خبر قيام أمن السفارة ، بالسيطرة علي أفراد في الشارع واقتيادهم إلي داخل السفارة ، لأن ذلك فعل مؤثم ولا تحميه الحصانة الشخصية أو حصانة المنشآت، ويمكن أن تعرض البعثة لمشاكل مع الدولة المضيفة لا محل لعرضها الآن."

وحيث لاحظت تكرر نداءات المطالبة بإزالة الحواجز الخرسانية المحيطة بالسفارة البريطانية بالقاهرة ، كرد فعل و " معاملة بالمثل " لتقصير السلطات الإنجليزية عن توفير الحماية الكافية لبعثتنا في لندن .

ورغم أنني كنت أري منذ أحقاب أهمية البحث عن وسائل تأمين أكثر تحضراً ، بدلاً من تلك الكتل التي تشوه واحداً من أرقي الأحياء القاهرية ، إلا أنني لا أظن أن الحكومة سوف تفعل ذلك ، وإذا قررت أن تفعل ، فلا بد انه سيتم بالتنسيق مع السلطات البريطانية ، بحيث يتم بالشكل والتوقيت الذي لا يتسبب في خلل أمني ، يضر بالسفارة وبسمعة مصر في نفس الوقت .

وتنظم إتفاقية العلاقات الدبلوماسية التي أبرمت في فيينا عام 1961 القواعد الخاصة بإنشاء وإدارة البعثات الدبلوماسية بين دول العالم ، ومع ذلك فقد حرصت علي النص في ديباجتها علي أن :"

تؤكد ضرورة استمرار قواعد القانون الدولي العرفي في تنظيم المسائل التي لم تنظمها صراحة احكام هذه الاتفاقية." ..

وقد نصت الإتفاقية في مادتها رقم 22 علي : "

1 - تكون حرمة دار البعثة مصونة. ولا يجوز لمأموري الدولة المعتمد لديها دخولها الا برضا رئيس البعثة.

2 - يترتب على الدولة المعتمد لديها التزام خاص باتخاذ جميع التدابير المناسبة لحماية دار البعثة من اي اقتحام او ضرر ومنع اي اخلال بأمن البعثة او مساس بكرامتها." .

أي أن هناك التزام يفرضه القانون الدولي علي الدول لتوفير الحماية للبعثات الدبلوماسية الموجودة فوق أراضيها.

وكما هو واضح أنه من المحظور المساس بكرامة البعثة الدبلوماسية ، وهو ما يعني مباشرة أن الجانب البريطاني قد قصر في حماية هذه الكرامة عندما سمح بالعبث ببواباتها أو الكتابة علي جدرانها .

ورغم أن المطالبة بتطبيق قواعد المعاملة بالمثل ، تغفل أن هذا التطبيق لا ينفذ آلياً ، ولمجرد رد الفعل ، وإنما يتم بعد استنفاد كل الإتصالات من خلال القنوات الدبلوماسية بشكل هادئ .

ولكن ما هي حدود " المعاملة بالمثل " ، هل هي تطبيق يتماثل مع نوع " الإنتهاك "، أي في حالتنا السماح بقيام أفراد بإغلاق بوابات البعثة البريطانية مثلاً ، أم يكون التطبيق مماثلاً لدرجة الإنتهاك ، أي في حالتنا التسبب في إحداث مشاكل للبعثة بشكل أو بآخر؟.

بناء علي ما تقدم ، فهل تكون المطالبة بإزالة الحواجز الخرسانية تطبيقاً للمعاملة بالمثل نوعاً أم درجة؟.

في تقديري أن الحدود  الحاكمة هنا ، هي مدي ما توفره الإجراءات لحماية البعثات الدبلوماسية ، فإذا وجدت مصر أنها يمكن ان توفر تلك الحماية بعد إزالة الحواجز، فلا يوجد عائق قانوني للقيام بذلك بغض النظر عما حدث ، ودون أن يعني  ذلك تطبيقاً لمبدأ المعاملة بالمثل.

بشكل عام ، لا داعي للتسخين الإعلامي ، أو حض المصريين في المهجر القيام بـ" حماية السفارات المصرية " ، لأن ذلك ليس دورهم ، ولأنهم لن ينجحوا إلا في إثارة الشغب قرب بعثاتنا، كما قد يتعرضون للمحاسبة القانونية وفقاً لقوانين ونظم كل دولة .

الأسلوب الأمثل ، هو الإتصال والتنسيق بين السفارة ووزارة الخارجية في الدولة المضيفة ، كي تقوم اجهزة الأمن بإتخاذ اللازم .

ومن ناحية أخري ، من المهم العلم أن حدود حصانة مبني البعثة ، لا تمتد خارجه ، ويجب الحذر من التعرض لأي شخص خارج أسوار المبني ، أو محاولة جذبه إلي داخل البعثة عنوة، لأن ذلك يعرض البعثة لمخاطر قانونية لا محل لمناقشتها هنا .

قد يستخدم الإعلام أحياناً في إرسال رسائل دبلوماسية ، ولكن من الخطورة بمكان أن يظن أحد بإمكانية إدارة العلاقات الدولية بواسطة الإعلام .
-------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب