السفر بالقطار الطلقة (شينكانسن باليابانية) من العاصمة طوكيو إلى مدينة كيوتو في غرب اليابان متعة تستحق التجربة في حد ذاتها، تفاني طاقم النظافة النسائي المصطفّ على جانبي الأبواب بملابس وردية وحقائب بيضاء بها أدواتهن. كشغالات نحل في دأبهن وسرعتهن، بخروج آخر راكب من المقصورة يبدأن العمل في صمت، لكل منهن مساحة ونطاق عمل محددين ودقيقتين لا أكثر لإنجاز المطلوب قبل دخول الركاب وانطلاق القطار بمتوسط سرعة 300 كيلومتر/الساعة.
تُصنف العربات بين مقصورات يسمح فيها باستخدام الهاتف والحديث خلال الرحلة، وأخرى يُمنع فيها الصوت، وهي الأكثر إقبالاً حيث يعكف المسافرون على القراءة أو مراجعة أعمالهم على أجهزة الكمبيوتر والاستفادة من الوقت.
بزي نظيف مهندم كأنه يقصد حفل تتويج، ينحني مفتش القطار مبتسمًا أمام كل راكب مرتين، الأولى وهو يتناول التذكرة ليراجعها، والثانية وهو يعيدها إلى صاحبها، فإذا ما انتهى من عربة وقف على الباب الداخلي وانحنى للركاب مودعًا.
أما إذا سمعت بجوار أُذنك صوتًا أقرب لهسيس عصفور، فاعلم أنها المضيفة تسألك إن كنت ترغب في تناول مشروب أو قطعة مخبوزات من ذلك السَبَتْ الأنيق المعلق برقبتها بشريط ملون.
"ما هو متوسط تأخر للقطار؟" سألت مرافقنا الياباني بعدما غادرنا القطار بصوت كله أسى، فأعاد الكُرة قائلاً، "خمن؟"، زممتُ شفتي مُفَكِرًا؛ بأي خلفية أُجيب؟ بما اعتدته أم بما اعتاده هو، في النهاية أجبت متوجسًا، "عشر دقائق!"، ابتسم وقال "عشر ثوانٍ!".
قطار يستقله الآلاف يوميًا في رحلة لأكثر من 450 كيلومتر يتوقف خلالها مرتين أو ثلاث، ولا يتجاوز عشر ثوان تأخير.. ممكن بإحلال الانضباط والالتزام والاحترام المتبادل محل الفهلوة والعشوائية!
وكما في الشرق تُقاس الدقة بالثواني، ففي الغرب أيضًا تحرز البطولات بأجزاء من الثانية، فبتمكنه من تقليص زمن الدوران لكل لفة في سباق فورملا-1 بمقدار تسعة أعشار من الثانية استطاع سوني هايس الفوز بالمركز الأول..
من قبل، كان الحال قد تدهور بهايس، يكافح ليجد قوت يومه، تقدم به العمر وأثقلته الخيبات؛ سقوطه المدوي في سباق فورمولا-1 وقت كان شابًا مفعمًا بالحيوية والمغامرة، تركت الإصابات الخطيرة بصماتها عليه وأربكت مسار حياته، فانهار زواجه، وسلبت طاولة القمار ما تبقى من ثروة، فطاردته الديون.
ذات يوم عرض عليه زميله السابق روبن سيرفانتس الانضمام للفريق الذي يتولى إدارته، لم يكن الفريق في حالة فنية جيدة، بعدما تعرض لعدة خسائر متتالية، واضطرت الإصابة أحد سائقيه الأساسيين للابتعاد عن مضمار السباق، فضلاً عن تهديد المستثمرين بعرض الفريق للبيع.
كان الموقف حرجًا للغاية؛ هايس يفتقد ثقته في نفسه، وسيرفانتس يبحث عن قشة أمل يتعلق بها في بحر الأمواج العاتية..
انضم هايس للفريق وواجه وباقي طاقم العمل مواقف صعبة، شاركوا في عدة سباقات وكادوا يحققون مراكز متقدمة في بعضها، وخسروا جراء أخطاء صغيرة أو لغياب التفاهم، بذلوا جهودًا كبيرة لتطوير أدائهم. عدلوا تصميم السيارة مما جعلها أكثر انسيابية وثباتًا في المنحنيات، تجاوزوا الحساسيات الصغيرة وعملوا بروح الفريق.
ساعدت خبرة هايس الكبيرة الفريق على تحسين ترتيبه سباقًا بعد آخر.. تكتيكات فنية استراتيجية، أهمها تقليص زمن اللفة بمقدار تسعة أعشار الثانية، ليحقق هايس المخضرم حلمه ويفوز مع زميله الشاب جوشوا بسباق فورملا-1.
بهدوء، يرفض هايس عروض الاحتراف ويودع الفريق بعدما سلم الراية لجيل أصغر سنًا قادر على إكمال المسيرة، ويذهب بعيدًا ليشارك في سيارات سباق باها الصحراوي بالأردن مع فريق مغمور.. ليس بغرض كسب المال، بل للمتعة وإسعاد الآخرين.
كانت تلك قصة فيلم "فورملا-1" المستقاة من أحداث حقيقية، للنجم براد بيت مع طاقم تمثيل وإنتاج وإخراج تبرهن على صدارة السينما الأمريكية وتميزها، من خلال الاهتمام بالتفاصيل وحرفية العرض، ليحقق الفيلم بعد ثلاثة شهور من بدء عرضه، إيرادات بلغت 600 مليون دولار، أي ضعف ميزانية إنتاجه.
لم يكن هايس يدرك إمكاناته، وكانت ثقة سيرفانتس في محلها. لم يحقق هايس الفوز فقط، بل أعاد الثقة للفريق ولنفسه، وأكد على أن بداخلنا طاقات هائلة علينا محاولة اكتشافها، سواء بأنفسنا أو مع الآخرين..
من جانب آخر، يظل للزمن الكلمة الأخيرة في تحقيق التميز، وما بين عشر ثوانٍ وتسعة أعشار من الثانية يُصنع التاريخ!!
-------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]